#قبل_حلول_الظلام

tag icon ع ع ع

إبراهيم العلوش

“قبل حلول الظلام” عنوان كتاب جديد للمعتقل السابق معبد الحسون عن سجن تدمر، يذكّرنا هذا الإصدار بكتاب “ذكريات من بيت الموتى” لدستويفسكي، الذي هزّ الإمبراطورية الروسية في القرن التاسع عشر، إذ ينقل الحسون من قاع الجحيم التدمري أهوال العذاب والانتظار بمهارة تؤهله ليكون من أهم الوثائق عن سجن تدمر!

استمرارًا لكتابات الكثير من المعتقلين السابقين أمثال هبة دباع وياسين الحاج صالح وآرام كربيت وعزيزة جلود ومصطفى خليفة، ينشر الناشط والمعتقل السياسي السابق معبد الحسون ذكرياته عن سجن تدمر على صفحته في الفيسبوكMaabad Alhassoun  ويرصد حالات الانتظار والمرض والصبر والشجاعة بوجه المصير الكارثي الذي يوصل نظام الأسد إليه سوريا والسوريين منذ ثمانينيات القرن السابق. ويتم إغناء هذه الذكريات بعملية تفاعلية عبر الإضافات التي يكتبها معتقلون سابقون في تعليقاتهم على المنشورات.

يتحدث معبد الحسون في كتابه المزمع نشره قريبًا، عن فايز المحكوم بالسجن خمس سنوات، الذي يذهب إلى الإعدام بدل أخيه عبد الكريم، وهو يعلل ذلك بأن أهله لن يتحملوا إعدام أخيه عبد الكريم، وقد تهون عليهم المصيبة إن هو ذهب إلى حبل المشنقة بدلًا من أخيه الأكبر، تتم العملية بسريّة، ولكن القهر يقتل الأخ الأكبر لاحقًا في السجن.

يتحدث عن قرقوشية قضاة المحاكم الميدانية أمثال سليمان الخطيب وحسن قعقاع اللذين يجهدان في فبركة التهم ليتناولا الإفطار في أثناء رفع المشانق بعشرات السجناء كما يروي معتقلون آخرون.

يتحدث عن الطبيب زاهي العبادي أبو واقد، الذي يتخصص بمرض السل، ويتحول إلى حجة بكشف إصابات السل في سجن تدمر، ولكن السجن لاحقًا يتحول في معظمه إلى بيئة سليّة بسبب نقص الأغذية، ونقص الأدوية، وانتشار القهر، والضرب المبرح بمناسبة وبغير مناسبة. ويقضي المرض واليأس على الطبيب الموهوب والنبيل زاهي العبادي فلا يخرج من سجن تدمر إلا جثة ملفوفة بثيابه الرثة.

يتحدث عن شبان رائعين وجميلين مثل حسان طباع المعتقل الذي ينادي السجانين بلقب يا حلوين يا أكابر.. يا أولاد الأكابر.. وتستنكر الوحوش البشرية هذا اللطف وهذه الألقاب الجميلة كالياسمين الذي عاش في ظله، ويقول له أحد السجانين مستنكرًا ألقابه “ولاه نحن جحاش ولاد جحاش متلكن.. كلاب ولاد كلاب متلكن وأضرط منكن.. يلعن أبوك يا ابن ستين كلب.. ولك بتسبنا وبتشتمنا كمان؟”.

يتحدث عن فاتح جاموس الشيوعي الذي يصل إلى تدمر ويأمل أن يشفع له ابن خالته مدير السجن فيصل غانم، ويعفيه من عقوبة الاستقبال التي تفتت جلود السجناء الجدد وتلونها بالأحمر، فينال عقابًا أشد من رفقائه!

يتحدث عن ممتاز والي (المستحبس بأمر الله) الذي يحمل أحزمة بالكاراتيه، ويهتم بلياقته رغم عسف السجانين وحرمانه من آدميته، ومع ذلك فإنه لا يرفع يديه بوجه زميله المسجون عندما يضربه أمام السجناء.

يتحدث عن خلية من الإسلاميين مؤلفة من أربعة أشخاص ويتحولون إلى صناعة الخل في المعتقل، ويتقنون فن تحضيره إلى درجة عالية، ولكنهم يطلبون ممن يرغب بأخذ “بيدون خل” أن ينتسب إلى حزبهم الديني، وهم يوزعون الخل دائمًا، ولكنهم لا يحصلون على أنصار جدد!

يتحدث عن يوم قدّم السجّانون أوعية الطعام وهي مليئة بـ”الخراء” عقوبة للمساجين على ذنب لم يرتكبوه أبدًا.

يتحدث عن الأطفال الذين كبروا في السجن وصاروا في العشرينيات والثلاثينيات من أعمارهم وهم يلعبون كأطفال صغار كما اعتقلوهم أول مرة.

يتحدث عن اصطناع عطل في خطوط مياه الشرب لمعاقبة المعتقلين لأشهر عديدة بالعطش وسط الصحراء التدمرية التي لا ترحم.

يتحدث عن أناس بسطاء لا يعون لماذا تم اعتقالهم، وعمن تمّ أخذهم كرهائن عن أبنائهم وعن أزواج بناتهم، ويتحدث عن أناس يفسرون الأحلام علّهم يجدون أملًا في الخروج من السجن، وقد لجأ أحد المعتقلين إلى طلب تفسير حلم سميرة توفيق في فيلمها عنيترة بنت عنتر، ولكن أحًدا لا يفسر له الحلم، لأن ذلك يتسبب حسب اعتقادهم بإطالة مدة اعتقالهم، وبعد سنين طويلة، وعندما يخرج من المعتقل ويلتقيه معبد يعيد عليه أنه لو قاموا بتفسير حلم سميرة توفيق لما تأخر الإفراج عنهم كل هذا الزمن.

يتحدث عن قادة عسكريين في البحرية وفي أسلحة الجيش المختلفة، يتم امتهان كرامتهم إلى حد أن أحدهم يصرخ تحت التعذيب “والله أنا كنت معلم دهان، والدهان صنعتي الأصلية التي بقيت أعتاش منها رغم تطوعي في الجيش لحماية الوطن!”.

يتحدث عن محمد وداد بشير الذي أسهم بإلقاء القبض على العميل الإسرائيلي كوهين وتم سجنه بنفس الزنزانة التي سُجن فيها كوهين قبل إعدامه.

يتحدث عن ألوف الشبان السوريين واللبنانيين والفلسطينيين الذين تم وأدهم من جيل الثمانينيات، من مثقفين وكتاب وضباط ومهندسين وأطباء ومحامين وحرفيين وأساتذة كبار تم دفنهم أحياء لصناعة هذا الثقب الأسود الذي ينفجر اليوم ويدمر السوريين ويهجّرهم من بلادهم، وهو ينفجر بوجه نظام الأسد وزبانيته أيضًا وضباطه الذين تحولوا إلى خدم للمحتلين الإيرانيين والروس، يتسولون رضاهم ويمسحون أحذيتهم، بعد عقود من ممارسة الغطرسة ضد السوريين وتحقيرهم بالاعتقال، وبالتعذيب، وبمصادرة الحياة العامة منهم.

وما لا يذكره معبد الحسون الذي نأى بنفسه عن الذاتية في السرد، هي حالة والده الشاعر وخبير الآثار مصطفى الحسون الذي فجع باعتقال أبنائه في مطلع الثمانينيات، وصار يهيم في شوارع الرقة ويقرض الشعر حزنًا على فلذات كبده، ومنهم معبد الذي يكتب سيرة الآخرين اليوم ويوثقها وهو لم يشاهد ما حل بعائلته بعد اعتقاله.

تتضح صورة سوريا التي يجمع تفاصيل سجونها معبد الحسون مع عدد كبير من المعتقلين الذين وثقوا تجاربهم ونشروها في كتب ومقالات، وتتجلى مأساتها عبر شهاداتهم، وتبيّن الأسباب التي أودت بها إلى هذا الخراب، وننتظر اليوم كل من لديه شهادة أن يوثقها وينشرها قبل أن يسرق السجانون التاريخ، ويتآمرون مع المحتلين الجدد لفرض روايتهم لتاريخ سوريا وما جرى فيها. فسوريا الجديدة ستخرج حتمًا من هذا السواد الذي يلوثها ويمزقها بفضل أبنائها المخلصين، وسترسو على جبل الجودي مثل سفينة نوح حاملة كل بذور الحياة الحرة.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة