الحقيقة والأكاذيب والأدب

تعبيرية (nytimes)

camera iconتعبيرية (nytimes)

tag icon ع ع ع

سلمان رشدي – ترجمة جيان إبراهيم

الانهيار الذي أصاب الاتفاقات القديمة حول الحقيقة هو الحقيقة الأكثر بلاغة الآن. حيث يمكن أن تكون السرديات المتضاربة وغير المتوافقة غالبًا هي الوسيلة الأمثل لتفسير العالم.

“ماذا؟ أمجنون أنت؟ أمجنون؟” يتوجه فالستاف بالسؤال إلى الأمير هال، في مسرحية شكسبير “هنري الرابع، الجزء الأول”، “أليست الحقيقة هي الحقيقة؟” تكمن الدعابة ها هنا بأن فالستاف كان يكذب كل الوقت، فيما عمل الأمير على كشف أمره ككذاب.

في وقت كما الحالي، حيث تُهاجَمْ الحقيقة أينما كانت، يبدو أن عددًا من القادة الأقوياء قد تشاركوا مفهوم فالستاف المزدوج عن الحقيقة. ففي الدول الثلاث؛ الهند، المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، التي قضيت كل حياتي مهتمًا بها، تقدم الأكاذيب القائمة على المصلحة، وبشكل منتظم على أنها حقائق، بينما يتم تشويه سمعة المعلومات الموثوقة باعتبارها “أخبار كاذبة”. في المقابل، وغالبًا، يرتكب المدافعون عما هو حقيقي، في محاولتهم لمقاومة فيضان التضليل المندفع كالطوفان نحونا جميعًا، خطأ الحنين إلى عصر ذهبي، ذاك العصر حيث كانت الحقيقة غير متنازع عليها ومتقبلة عالميًا، وكذلك خطأ الجدال حول ماهية ما نحتاجه، وأنه يكمن في العودة إلى ذلك الإجماع السعيد.

والحقيقة هي أن الحقيقة لطالما كانت فكرة متنازع عليها. في عمر مبكر، تعلمت كطالب تاريخ في كامبريدج أن بعض الأشياء هي “حقائق أساسية”، أي أحداث لا يمكن الجدال بها، من مثل: وقوع معركة هاستينغز عام 1066، أو أن إعلان الاستقلال الأمريكي قد تم تبنيه في الرابع من تموز عام 1776. غير أن خلق حقيقة تاريخية نجم عن منح معنى معين لحدث، ففي عبور يوليوس قيصر لنهر الروبيكون حقيقة تاريخية، ولكن أشخاص كثر آخرون قد عبروا النهر ذاته وأفعالهم لم تكن محط اهتمام التاريخ، لتسقط عن حالات العبور هذه، انطلاقًا من المعنى المطروح، سمة الحقائق. بالإضافة إلى أن مرور الوقت يغير من معنى الحقيقة. وفي ظل الإمبراطورية البريطانية، عرفت ثورة 1857 العسكرية بـ “التمرد الهندي”، ولأن التمرد هو ثورة على السلطات الرسمية، أوقعت هذه التسمية بذلك معنى الحقيقة، الهنود “المتمردون” في الخطأ. يطلق المؤرخون الهنود اليوم على هذا الحدث اسم “الانتفاضة الهندية” ليجعلوا منه حقيقة من نوع آخر تمامًا، والتي بدورها تعني شيئًا آخر. حيث يجري على الدوام تنقيح الماضي وفقًا لمواقف الحاضر.

يكمن شيء من الحقيقة في فكرة أن إجماعًا حول شخص الحقيقة، كان قد انتشر إلى حد ما في الغرب خلال القرن التاسع عشر. كان لدى عظماء العصر من كتاب الرواية (غوستاف فلوبير، جورج إليوت، إديث وارتون وغيرهم) القدرة على افتراض أنهم وقراؤهم متفقون، بشكل عام، حول طبيعة الواقعي، وبُني عصر الرواية الواقعية المهيب على هذا الأساس. غير أن هذا الاجماع كان مبنيًا على عدد من الاستثناءات، حيث كان الواقعي أبيض ومنتميًا إلى الطبقة الوسطى. فعلى سبيل المثال وجهات نظر المستعمَرون أو الأقليات العرقية ــ وجهات نظر بدا من خلالها العالم مختلفًا جدًا عن واقع الطبقة البرجوازية المصورة في، ولنقل، “عصر البراءة”، “ميدالمارش” أو “مدام بوفاري” ـــ كانت ممسوحة بطريقة مهولة من سرديات تلك الأعمال. كما تم تهميش أهمية كبريات القضايا العامة غالبًا. فبالكاد ذكرت الحروب النابليونية في الأعمال الكاملة لجين أوستين، بينما اقتصر وجود الإمبراطورية البريطانية في الأعمال الكاملة لشارلز ديكينز، على ضخامتها، على اعتراف أشبه بلمحة.

في القرن العشرين، بفعل الضغط الهائل للتغيرات الاجتماعية، تم الكشف عن هشاشة إجماع القرن التاسع عشر؛ حيث يمكن لأحدنا القول إن منظوره للواقع أخذ يبدو مزيفًا. فسعى في البداية فنانو الأدب إلى تأريخ الحقيقة المتغيرة مستخدمين أساليب الرواية الواقعية (كما فعل توماس مان في “بودنبروك”، أو جونيتشيرو تانيزاكي في “الأخوات ماكيوكا”). لكن الرواية الواقعية أخذت تصبح أكثر إشكالية بالتدريج كما خلق الكتاب بدءًا بفرانز كافكا، رالف إليسون وغابرييل غارسيا ماركيز نصوص غريبة، أكثر سريالية، مخبرين الحقيقة بأدوات اللاحقيقة الجلية، فخلقوا بذلك نوعا جديدًا من الواقعي، كما لو أنه السحر.

لطالما ناقشت، خلال الجزء الأكبر من حياتي ككاتب، أن الانهيار الذي أصاب الاتفاقات القديمة حول الحقيقة هو الحقيقة الأكثر بلاغة الآن، وأن السرديات المتضاربة وغير المتوافقة غالبًا هي الوسيلة الأمثل لتفسير العالم. في كشمير وفي الشرق الأوسط، وكذلك في المعركة بين أمريكا التقدمية وترامبيستان تتجلى لنا أمثلة عن هكذا لامتوافقات. وأكدت كذلك على أن لهذا الموقف الجديد، الخلافي لا بل والجدلي العنيف من الحقيقي، تبعات عميقة في الأدب التي لا يمكننا، أو يتوجب علينا أن لا نتظاهر بعدم وجودها. أعتقد أن تأثير المزيد والمزيد من الأصوات المتنوعة على الخطاب العام شيء جيد، حيث أنه يغني أدبياتنا ويجعل من فهمنا للعالم أكثر تعقيدًا.

ولكنني اليوم أواجه، كما نفعل جميعًا، معضلة حقّة. فكيف لنا أن نناقش أن الحقيقة المعاصرة قد أصبحت بالضرورة متعددة الأبعاد، متصدعة ومتشرذمة من جهة، وأن الحقيقة، من جهة أخرى، هي شيء ذو خصوصية عالية، سلسلة من الأشياء التي لا تحتمل الجدل، والتي، بصراحة، تحتاج الدفاع عنها ضد أشياء تحتمل الجدل؛ أشياء يتم نشرها من قبل حزب مودي في الهند، فريق البريكست في المملكة المتحدة والرئيس في أمريكا؟ كيف لنا أن نواجه أسوأ خصائص الانترنت، هذا العالم الموازي، الذي تتعايش فيه المعلومات المهمة والقمامة الكلية جنبًا إلى جنب وبنفس السوية من النفوذ على ما يبدو، ما يصعب على المستخدمين التفريق بينهما أكثر من أي وقت سابق؟ كيف نقاوم عملية الحت في تقبل العامة “للحقائق الأساسية” حقائق علمية، براهين عن التغيرات المناخية أو لقاح الأطفال على سبيل المثال؟ كيف لنا أن نواجه الديماغوجية السياسية التي تسعى إلى فعل ما أراده السلطويون على الدوام، أي أن تقوض إيمان العامة بالبراهين وأن تقوم فعليًا بإخبار منتخبيهم “لا تصدقوا غيري، إذ أنني الحقيقة”؟ ما الذي يمكننا فعله حيال هذا؟ وما هو، تحديدًا، دور الأدب ودور الفنون الأدبية على وجه الخصوص؟

أنا لا أتظاهر هاهنا بأن لدي الإجابة الكاملة. وأعتقد أننا بحاجة لاستيعاب أن فكرة أي مجتمع عن الحقيقة هي دائمًا نتاج جدال؛ ونحتاج كذلك أن نحسن الفوز بهذا الجدال. فالديمقراطية ليست مهذبة وغالبًا ما تكون مباراة صراخ في ساحة عامة. علينا أن ننخرط في هذا الجدال إذا ما أردنا أن يكون لنا فرصة الفوز به. أما فيما يتعلق بدور الكتاب، يتحتم علينا أن نعيد بناء إيمان قرائنا بالجدل انطلاقًا من البراهين الفعلية، وأن نقوم بفعل ما قام به أدب الخيال على أمثل وجه؛ أي أن نبني بين الكاتب والقارئ تفاهمًا عن ماهية الحقيقي. أنا لا أعني أن نعيد بناء إجماع القرن التاسع عشر الضيق والحصري، حيث أنني أفضل أن يتوافر في الأدب وجهة نظر مجتمع أكثر رحابة وولعًا بالجدل؛ لكن، وبوجود وجهة النظر هذه، نجد أنفسنا عند قراءة كتاب نفضله، لا بل نحبه، على وفاق مع صورته عن الحياة البشرية، فنقول، أجل، هذا ما نحن عليه، هذا ما يفعله أحدنا بالآخر؛ هذا واقعي. إنه هنا، على الأغلب، حيث يمكن للأدب أن يساعد بالشكل الأكبر. يمكننا أن نجعل الناس متفقين، في هذا الوقت من التعارض الراديكالي، على حقائق الثابت الأعظم، ألا وهو الطبيعة الإنسانية. فلنبدأ من هنا.

في ألمانيا، بعد الحرب العالمية الثانية، لمس كتاب ما أطلق عليه Trümmerliteratur أو “أدب الأنقاض” الحاجة لإعادة بناء لغتهم، التي سممتها النازية، وبلدهم، التي قبعت بين الدمار. لقد أدركوا أن الواقع، الحقيقة، احتاج لإعادة إعمار من أسفل لأعلى من خلال لغة جديدة، تماما كما احتاجت المدن المفجّرة لإعادة إعمار. أظن أن بإمكاننا التعلم من المثال الذي يضربونه. نحن نقف مرة أخرى، على الرغم من اختلاف المسببات، وسط أنقاض الحقيقة. على عاتقنا نحن -كتاب، مفكرون، صحفيون وفلاسفة- تقع مهمة إعادة بناء إيمان قراءنا بالواقع، ثقتهم في الحقيقة. علينا أن نقوم بذلك من خلال لغة جديدة، من الألف إلى الياء.

مقال لسلمان رشدي، نشر في 31 أيار 2018 على موقع النيوركر




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة