الثورة والحرب النفسية

tag icon ع ع ع

حذام زهور عدي

ليس جديدًا على المتخاصمين توظيف الحرب النفسية كإحدى أدوات الصراع لكسب معركة سياسية أو عسكرية، فقد مورس ذلك العامل وأعطى نتائج تفوق في كثير من الحالات ما أعطته الطائرات والبوارج والصواريخ أو أدوات الحروب الأخرى القاتلة، وإذا كانت الحرب “خدعة” كما قال القدماء، فإن أهم خدعة فيها الحرب النفسية، التي تقوم على تحطيم العدو من الداخل من خلال تلفيق أخبار إما كاذبة كليًا أو استغلال ثغرة ما يتم التركيز عليها والمبالغة بها لتعمل على شرذمة العدو وانهيار معنوياته وإضعاف إرادة القتال عنده، وإفقاد الثقة البينية لدى قياداته وبينها وبين جمهوره.

الأداة الفعالة الثانية هي الاختراقات الأمنية التي تعتمد نشر المعلومات الكاذبة في داخله، والتصرف بطريقة تسمح لتلك الأخبار بأن توحي بالمصداقية.

ولعل من امتد العمر به من السوريين يذكر القصص والروايات التي استطاع فيها رئيس حزب ما إصدار إشاعات كاذبة لمحاربة معارض له فكريًا أو سياسيًا، والإشاعات الكاذبة في خمسينيات القرن الماضي كانت منتشرة حتى أصبح كل فريق يعرف الاتهامات التي توجه للآخر مسبقًا، فينشرها الأنصار دون الرجوع إلى القادة في كثير من الأحيان، وكانت أحزاب كاملة توصم بإشاعات التآمر مع الأمريكي أو العلاقة مع الصهيونية أو مع الاتحاد السوفييتي، واللافت للنظر كثرة الاتهامات بالعلاقة مع المنظمات السرية العالمية كالماسونية وأمثالها… وبصرف النظر عن صحة تلك الإشاعات أو عدمها فإن كثيرًا ممن قصدتهم الإشاعة تأثر جمهورهم بها وخرجوا من العمل السياسي، وتحقق الهدف منها، إذ قلما وُجد جهاز موضوعي يحقق ويدقق صدق الإشاعة من كذبها، وقلما انتبه الجمهور إلى الغرض منها، فكان يسهم في تداولها وبالتالي يحقق ما يريده أعداؤه منها دون أن يدري.

وعندما استلم البعث السلطة في سوريا عام 1963 استمر في التقليد ذاته، لكنه تطور تطورًا ملحوظًا زمن حافظ الأسد، وحقق نقلة نوعية كبرى من خلال بث قنوات تلفزيونية وإذاعات وصحف متعددة، بل وصل الأمر إلى شراء أعمدة في صحف عالمية وإلى التعاقد بمليارات الدولارات مع شركات الدعاية لتبييض وتنظيف الوجوه شديدة القذارة، وقد استمر هذا النهج بالتصاعد أيام ابنه حتى وصل من يخترع الإشاعة من ضباط الأجهزة الأمنية إلى حد يتباهى بها ويهدد علنًا معارضه السياسي بإحراقه سياسيًا واجتماعيًا من خلال إشاعة يخترعها جهازه وتنشرها وسائل إعلامه المرئية والمقروءة العلنية والسرية، ويسربها إلى الإعلام العالمي! وأصبح لكل فرع أمن دائرة خاصة تحت اسم دائرة الإشاعة تصدر أوامر لعناصرها تبدأ بكلمة “أشع”… وأصبح قضاة التحقيق يستلمون من الأجهزة الأمنية ملفات تحوي العشرات من التهم الملفقة تصل عقوبتها وفق القوانين المعمول بها إلى الإعدام يساومون بها المعتقل السياسي ويهددونه بأحكامها.

عندما انطلقت الثورة السورية، نشطت هذه الدوائر نشاطًا غير عادي، وبدأ تأليف الأخبار، وتبنيها وإذاعتها من خلال المقابلات الصحفية والخطب الرنانة أولًا، لرأس هرم السلطة والمقربين منه، كبثينة شعبان ووزارة الإعلام والشخصيات التي تستضيفها القنوات عادة، وزاد الأمر وانتشر عندما وضعت إيران وفرعها اللبناني أكثر من عشر قنوات إعلامية للإسهام النشط في نشر ما يراد أن يُنشر.

لقد كانت الحرب النفسية من العوامل المهمة في محاربة الثورة السورية وقد اعتمدت هذه الحرب على اتجاهات متعددة، أهمها اتهام الثوار بالإرهاب الذي ثبت صناعة الإيرانيين والنظام له، بمعرفة الدول الكبرى، دون أن تقيم اعتبارًا للحقوق الإنسانية أو الحياة البشرية، فتركتهم يمارسون أبشع ما سطره التاريخ من سلوك بربري، ولعل هذا الاتجاه في الحرب النفسية كان من أكثر عواملها تأثيرًا على موقف جمهور العالم الغربي من الثورة، وكان لا بد من عمليات مدوية ليصدق الاتهام ويتحول إلى حقيقة.

وليس بعيدًا عن الأذهان تفجيرات الحادي عشر من أيلول التي كانت سببًا رئيسًا في إقناع الرأي العام الغربي بتدمير أفغانستان والعراق، وتراجع الرأي العام العالمي عن التعاطف مع العرب والمسلمين، بل ظهور ما أصبح يُعرف بالإسلام فوبيا، وبالرغم من أن حقائقه تظهر يوميًا وتتجه الأصابع إلى الفاعل الحقيقي، أعاد النظام الأسدي إلى أذهان العالم هذه المصطلحات، من خلال الإسهام النشط بصناعة الإرهاب بأبشع صوره، وجعل أجهزة إعلامه وأجهزة حلفائه يكررون أخبار ذلك الإرهاب ليل نهار، حتى تحول إلى فزاعة العالم.

أما العامل النفسي الآخر فكان التوجه لتشويه سمعة العاملين بالثورة، ولا سيما قياداتها، تشويهًا يبدأ بنشر فكرة السرقات والتآمر على بعض والسخرية من أخلاقهم ومواقفهم، فإن كان المقصود متدينًا فالإرهاب الإسلامي أقرب التهم إليه، وإن كان علمانيًا فالتكفير هو اللغة الفضلى لتطفيش المتدينين من حوله، مع تشويه فكرة العلمانية وخلطها بإنكار وجود الله سبحانه، وإن كان ديمقراطيًا اتهم باستبداد الرأي للبرهنة على تناقضه وعدم مصداقيته، وهكذا يجدون لكل فرد ما يناسب من الأكاذيب، حتى وصل الأمر إلى فقدان الثقة بين الثوار والقادة، وملأت البرامج الافتراضية فيديوهات توحي بأن قيادات الفصائل المسلحة كلها إما مخترقة أو حرامية، وأُمطر التواصل الإلكتروني بأخبار المليارات التي اشترى فلان منها قصورًا في دول مختلفة… ولاحظ بعض المتابعين أن الإشاعات تتوجه أولًا إلى كل فرد قيادي بالاسم، وقد تمتد لمن يُحتمل أن يُرشح لمنصب قيادي معين، وخاصة إذا كان صلبًا في ثوريته، حتى أصبح الشريف يخاف أن يحرق نفسه فيتوارى، ويتقدم من هو بإمكانه أن يتعامل سلبًا أو إيجابًا مع تلك الإشاعات.

والحقيقة أن أحدًا لا يستطيع إنكار وجود ثغرات وحوادث حقيقية تسمح لمثل هذه الإشاعات بالتأثير، لكن المبالغة الواضحة في كمية المخالفات ونوعها والتي لا تقارن بالفساد الموجود بالنظام الأسدي أو كانت من فعل الاختراقات الأمنية نفسها قاصدة التوصل إلى حكايا مقنعة عن فساد الثوار تغطية على فساد النظام، تلك الثغرات لم تكن قليلة، وهي التي رفعت درجة نجاح الإشاعة إلى مستوىً فريد في عالم الثورات، حتى أصبح لقب الثورة فضفاضًا عليها بالرغم من التضحيات التي هي أيضًا غير مسبوقة تاريخيًا، فإذا أضفنا هذا العامل إلى أمراض الشخصنة والنرجسية وضعف التنسيق وعدم الاعتياد على العمل الجماعي… لمسنا عند ذاك أحد العوامل المهمة في هزيمة المعارضة سياسيًا وعسكريًا. وما جرى في درعا مؤخرًا والجنوب كان لوحة غريبة لنجاح الحرب النفسية التي خاضها الروس إلى جانب الأسد هناك، وتكاد أصوات الثوار تقرع الآذان وهم يُحذرون من الأخبار الكاذبة التي جعلت مدنًا وقرى تسقط دون معارك حقيقية بسبب تلك الإشاعات.

إن تلك الحرب النفسية كان يجب أن تواجه بعمل إعلامي منظم يتناسب مع أهميتها ويتصف بالمصداقية والحذر وضبط الأمور مع شفافية تضع الشعب بالصورة الحقيقية للوقائع، بحيث لا تفقد قدرتها على التأثير، ولا تسمح بالشرذمة وتهميش بعض القيادات لبعضها الآخر، والاستعانة بتلك الإشاعات نفسها في معاركهم البينية.

ترى لو أن القيادة السياسية اهتمت بإيجاد جهاز موثوق للمحاسبة المالية والسياسية والعسكرية، مع جهاز إعلامي يعمل أفراده بحماس الثوار لا بطرق الموظفين، هل كانت الأمور تصل إلى ما وصلت إليه؟

قد لا تصل الثورة إلى الانتصار المرجو لأن أحدًا بالعالم لا يريد لها الانتصار الواضح، ولكن الضحايا ربما سيكونون أقل والتسويات ستكون بشروط أفضل على أقل اعتبار.

فهل نأمل بعد هذه الخيبة المريرة بنهضة تبني مؤسسات تقطع الطريق على تلك الحروب النفسية وتوجهها إلى أفاعيل النظام الأسدي وحلفائه، مؤسسات تنطلق من المنهجية والالتزام وتعتمد الوقائع والحقائق وتعلي مراتب المصداقية.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة