هل تعرف حوران من خانها

camera iconمتظاهرن في بصرى الشام بريف درعا يحيون ذكرى الثورة السورية - آذار 2016 (رويترز)

tag icon ع ع ع

مشاركة: وليد النوفل

قال المتنبي “وإذا كانَتِ النّفُوسُ كِبارًا        تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ”

اليوم أدرك تمامًا كل هذا التعب الذي يحيط بقلوبنا ويثقل كاهلنا، وأعي تمامًا أن النفوس كانت تطلب أمرًا عظيمًا، إنها الحرية الحمراء.

لا أدري لماذا اختار الله لحوران أن تكون مهدًا، تلك البقعة التي يلقبونها بـ “أم اليتامى والمساكين” تلك الشرقية الممانعة، العنيدة، متقلبة المزاج.

أذكر أنها على حين غفلة كانت تباغتني، تتزين، تصبغ نفسها بالأصفر لتبدو عصرية فاتنة، هي لا تعلم أن جمالها بقدر شرقيتها وبساطتها وتواضعها، هي لا تعلم أن الرجال يحبون الممانعة والصعبة. وهي لا تعلم أنني في أشد حالات الشوق القاتل، وكل ما أخشاه ألا يكون لنا لقاء لأضع رأسي على ثراها.

أسدل الليل ظلامه وسكنت نسمات الهواء، عم الصمت أجواء عمان، فالوقت متأخر الساعة الخامسة والنصف فجرًا، النعاس هرب ولم يعد كعصفور أفلت من قفصه، ورياح الشوق تعصف بالقلب. شريط الذكريات العابر وذكرى من رحلوا وكرامة الأرض وعنفوان رجل شرقي، كل ذلك تجسد لي على هيئة جبل يثقل كاهلي مطبقًا على صدري قاتلًا أمل الحياة فيه.

هذي بلادي، وهذا موطني وهنا صرخت أول صرخة للحرية، تلك الصرخة تأخرت 17 عامًا، كانوا يقولون لنا أن الطفل حينما ينزل من رحم أمه يصرخ منتصرًا معلنًا حريته، لكن في بلادي أول صرخة الحرية قد تتأخر كثيرًا وقد لا تأتي عند البعض.

حوران أنارت لنا درب الحرية يوم كان الظلام حالكًا، وعلمتنا كيف نحيا بكرامة، وأشعلت فينا نداء “الفزعة” العربية لنقوم كرجل واحد، لقد انتفضت في وجه الموت والجلاد، أرادوا قتلها وأثقلوا فيها الجراح، هنالك اليوم أرقب وجه أمي يلف الخوف قلبها على من تبقى فوق الأرض وعيناها على قبر عريس زُف إلى حوران قبل عروسه، أرقب جدتي تشكو حالنا لله، أرقب أخي حاملًا بندقية في وجه قاذفات المحتل، أرقب طفلًا قطعت صواريخهم جسده أشلاء مبعثرة، وأرقب أيضًا أقدام الغزاة من هناك تقول، “لقد انتهى كل شيء”، لقد انتهت حكاية ثورة وهل يمكن للثورات أن تموت.

أذكر قول غسان كفاني، “لقد انتهى العمر ولم يعد في القلب طاقة لمزيد من النبض”، فليس من السهل أن يعود الإنسان مكبلًا إلى جلاده، إلى قاتل أولاده وهاتك عرضه. من صرخ بـ “الموت ولا المذلة” كيف ستطاوعه نفسه أن يعود إلى الذل مرة أخرى، من أبصر الحرية سيموت من أجل أن يبقى حرًا.

لا أدري اليوم لماذا كل هذا الألم والتعب، مهنة المتاعب لا ترحم أحدًا، أن تكون صحفيًا في مناطق النزاع هذا وحده سيكون كافيًا لاختبار مدى الصبر وتحمل المصائب والكوارث وهول ما تشاهده وتسمعه. قبل سنتين قمت بتغطية أحداث حلب بتقارير شبه يومية عن أدق التفاصيل، كنت على تواصل ليل نهار مع أصدقاء وزملاء على مدار الساعة، ما حدث في حلب كان له تأثير كبير جدًا عليّ، وغيرها من المناطق التي كنت أتابع ما يحدث فيها من كوارث إنسانية وقتل للبشر والحجر، لكن لم أكن أعلم أن الحال مع حوران سيكون مختلفًا، سيكون الأمر أصعب، سيكون الأمر أن أفقد السيطرة على كل شيء.

لكن إذا كان قد انتهى كل شيء فلماذا يقاتل هؤلاء، ولماذا ما زالت حوران ترمي بشبابها للموت، يقول كنفاني، “أنت لا تستطيع أن تسأل مقاتلًا لماذا تُقاتِل؟ كأنك تسأل رجلًا لماذا أنت ذكر”، لكن هل الأمر متعلق بالرجولة والأرض يا غسان، وما تجدي البندقية أمام العالم كله. صديقي عدوك مختلف عن عدوي، لا أدري ماذا أقول، أيهما أشد تنكيلًا من الآخر، وقد لا يهم فالقتل واحد، بالنسبة لي لا أهتم كثيرًا لطريقة الموت، وسحقًا لمن صنف الأسلحة محرمة وغير محرمة.

ما يؤلمني ماذا سأقول بعد عشرين عامًا وأنا من كنت أعيب على جدي “حرب تشرين” وظلم الأسد الأب والابن، ماذا سأقول لأولادي، هل يكفي القول إن العالم تكالب علينا، أم أقول إنه أصبح لدينا ألف “بشار”، وماذا سأقول لابنة صديقي عن أبيها، كيف قتل ولماذا تركها، يا غسان ألست أنت من قلت “أن يكون الإنسان مع رفيق له حمل السلاح ومات في سبيل الوطن شيء ثمين لا يُمكن الاستغناء عنه”، أصبح الأمر ثقيلًا، تعال وأخبر تلك الطفلة لماذا مات أبوها، ومن باع الأرض.

أنت لا تعلم أن لحوران رمزية خاصة في قلوبنا، أقسم لك أن القلوب تفطرت ألمًا، أخبرني هل يمكن لبندقية أن تقاتل على جبهتين متناقضتين، أيعقل أن تنحر الذبائح للمحتل وأهل الكرم يموتون جوعًا في الخيام، لحظات صعبة تمر على حوران وأهلها، لقد كنت أسمع من ينادي هناك “أين الله” وبجواره من يقول “يا الله”، والبعض مثلي كان ضعيفًا فقال “اللهم الرفيق الأعلى قبل أن أرى الأسد يدنس ترابها”، فلهذا التراب قدسية لا يعلمها إلا الله.

وكل ما أقوله الآن، إذا لم تستطع قول الحق فلا تناصر الظلم، وكما سجل التاريخ أسماء العظماء فإنه دون أسماء خونة الأوطان، وسيذكر ترابها كل تلك الأسماء، فتراب حوران وبازلتها يعرف كل شيء. نعم إنه يعرف من خانها ممن صان عرضها.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة