tag icon ع ع ع

باستثناء الشرعية الدولية التي استطاع الحراك السلمي السوري انتزاعها من المجتمع الدولي، لم يتمكن الشارع السوري من تفعيل مطالبه وتجسيدها ضمن عمل مؤسساتي منظم ينفذ داخل جدران الحدود السورية، في وقت دخلت فيه الثورة السورية عامها الثامن.

إلا أن المهجر، الذي استقطب فئة لا يستهان بها من السوريين، خلق بيئة خصبة ومساحة من الحرية تمخضت عنها مؤسسات أحدثت خرقًا في الحياة المدنية السورية، مؤسسات لم يعهد المجتمع المدني السوري وجودها في ظل رقابة حكومية أدخلت مفاهيمها السياسية في أبسط تفاصيل الحياة المدنية، على مدى عقود.

مؤسسات سورية تنتظر التحول الديمقراطي

رغم أن عملها انحصرت في مناطق محدودة، نجحت بعض المؤسسات المدنية السورية، التي جسدت جزءًا من مطالب الشارع السوري بالحرية والتغيير، في إيصال صوتها للسوريين في مناطق المعارضة وخارج سوريا، فيما تسعى جاهدة إلى الحفاظ على روابطها مع السوريين الذين ما زالوا في الداخل.

تلك المؤسسات كانت انعكاسًا لصورة التحول الديمقراطي التي نادى بها الشعب السوري حين رفع شعارات الحرية والتغيير، وتجسدت تلك الصورة بمؤسسات إعلامية وأخرى حقوقية توثيقية ومنظمات لتمكين المرأة السورية بالإضافة إلى مؤسسة للدفاع المدني.

الناشط السياسي معتز مراد رأى أن الثورة السلمية فتحت الباب أمام الشعب السوري للتعرف على نشاطات مدنية لم يعتد عليها خارج مظلة الدولة، وأضاف في حديثه لعنب بلدي أنه رغم صغر تلك المؤسسات وضعف إمكاناتها إلا أنها تسعى إلى وضع بصمتها وترك أثر مهم في حياة السوريين.

مراد تحدث عن مخاوف من أن تتحول تلك المؤسسات إلى مؤسسات “مهجر”، كونها تنشط بشكل فعال خارج سوريا، لافتًا إلى أن تلك المخاوف “مشروعة” وهي تحدٍ إضافي يقع على عاتق القائمين عليها.

ومع ذلك، قال الناشط السياسي إنه يتوقع أن السوريين في الخارج لن يفقدوا قدرتهم على التواصل مع أهلهم وأبناء شعبهم في الداخل، بقوله “أثر تلك المؤسسات سيستمر، وعلى القائمين على مؤسسات المجتمع المدني في الخارج أن يبتكروا كل الوسائل الممكنة للحفاظ على صلتهم بالمجتمع السوري”، مشيرًا إلى أن الفرص والإمكانيات لا تزال متاحة أمامهم رغم حالة الخيبة المهيمنة على الملف السوري، حسبما قال.

منظمات لتوثيق الانتهاكات.. وأخرى لتمكين المرأة

مع بداية الحراك السلمي في سوريا نشطت منظمات حقوقية سورية تعنى برصد وتوثيق الانتهاكات بحق المدنيين في سوريا، تجاوز عددها العشرات، بفعل كم الانتهاكات التي طالت القانون الإنساني في البلد، وخرجت بصور عدة من بينها “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” و”سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” و”المركز السوري للدراسات وحقوق الإنسان”.

ورغم الإمكانيات المحدودة والمعوقات التي واجهتها تلك المؤسسات، من ضعف خبرات الكوادر وتذبذب الدعم المادي المقدم، بالإضافة إلى التضييق والملاحقات الأمنية، استطاعت وضع بصمة في عالم حقوق الإنسان، وتمكنت من الحديث في المحافل الدولية باسم ضحايا الحرب في سوريا.

إلا أن مساعيها في محاسبة مرتكبي “جرائم حرب” ومتجاوزي حقوق الإنسان في سوريا ما زالت قيد التحقيق، بانتظار تحقيق تلك المطالب التي يعيقها باستمرار التخاذل الدولي.

وبعيدًا عن التوثيق، تبنت بعض المؤسسات فكرة تمكين المرأة السورية ودفعها للمشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية السورية، التي ابتعدت عنها خلال سنوات الحرب.

ووفق بحث مبني على نتائج مسح معمق، نشر العام الماضي، تحت عنوان “منظمات المجتمع المدني السورية الواقع والتحديات”، فإنّ النساء يشغلن اهتمام 261 منظمة من أصل 748 خضعت للدراسة، وتركز أغلب هذه المنظمات على الدعم النفسي والتمكين المجتمعي وتعليم النساء بعض المهن أو الحرف، كما تقدم الخدمات التوعوية والتثقيفية حول حقوق المرأة في المجتمع.

الناشطة الحقوقية وداد رحال، مديرة رابطة “الشباب للتنمية الاجتماعية” في مدينة إدلب، ترى أن التغيير الذي يمكن أن تحدثه هذه المنظمات في بنية المجتمع وطريقة تعامله مع قضايا النساء، لا يمكن أن يأتي “في يوم وليلة”، بل يحتاج وقتًا وعملًا، وفق ما قالت لعنب بلدي.

وتلوم رحال وسائل الإعلام لانشغالها عن تغطية إنجازات الحملات التي تعدها المنظمات في سياق العمل الحقوقي، وهو ما يحول دون تعميم تجارب من المفترض أن تكون ملهمة للجميع.

“الإعلام الجديد” في دوامة البحث عن “الثبات”

غزت صور وفيديوهات المظاهرات السلمية في سوريا، عام 2011، القنوات التلفزيونية ووسائل الإعلام العالمية، تلتها تغطية إخبارية “محفوفة بالمخاطر” لمراسلين سوريين نقلوا صوت وصورة السوريين إلى الخارج، إلا أنهم نطقوا حينها باسم مؤسسات إعلامية غير سورية.

تفاقم الأوضاع في سوريا وتوالي الأحداث استدعى تأسيس وسائل إعلام سورية حسبت على الثورة، وعرفت فيما بعد باسم “الإعلام البديل” أو “الإعلام الجديد”، حملت على عاتقها تحقيق أولى أهداف الثورة وهي إتاحة مساحة من الحرية أمام الإعلام السوري، الذي عرف بتبعيته لنظام البعث منذ ستينيات القرن الماضي، فكانت تلك الوسائل من أوائل المؤسسات التي خرقت جدار الحياة المدنية السورية.

الخبير الإعلامي المصري ياسر الزيات، الذي عايش تجربة الإعلام السوري الحكومي قبل الثورة والإعلام المعارض بعدها، رأى أن هناك “فرقًا كبيرًا” بين الإعلام الحكومي السوري وبين المؤسسات الصحفية المعارضة والناشئة حديثًا.

وقال في حديث سابق لعنب بلدي “هناك تجربة صحفية تتبلور على مستوى احترافي كبير، قد لا تكون الموارد المتاحة عامل دفع قوي للسير بسرعة، لكن العملية تسير بثبات”، مشيرًا إلى أن الإعلام الحكومي السوري هو إعلام “شمولي يخدم مصلحة النظام الحاكم”.

وكغيره من مؤسسات المجتمع المدني واجه الإعلام تحديات وعقبات عدة تمثلت في نقاط عدة، أهمها مخاوف من أن يكون نطاق تأثيره محصورًا في مناطق المعارضة فقط، وأن يفقد صوته في مناطق سيطرة النظام السوري.

كما يواجه الإعلام السوري الجديد نقصًا في الخبرات والخلفيات الأكاديمية لدى العاملين في حقله، إذ إن حداثة التجربة وغموض المستقبل السوري يجعل من مسألة إثبات الذات أمرًا ليس بالسهل على تلك المؤسسات، رغم الفرص غير المعهودة المتاحة أمامها.

فيما تعيش وسائل الإعلام البديل تخبطًا بالنسبة للدعم المادي المقدم لها، والذي أدى تذبذبه إلى إغلاق بعض تلك الوسائل، منذرًا بضرورة التفكير بالاستدامة وتحويل المؤسسات إلى “بزنس” ومشاريع ربحية تموّل نفسها ذاتيًا، وبالتالي الاستغناء عن أموال الداعمين، كما يرى الخبير الإعلامي ياسر الزيات.

“الدفاع المدني”.. صورة مدنية تواجه آلة الحرب

مع ارتفاع أعداد الضحايا بين المدنيين بفعل آلة الحرب التي لم تميز العسكري من المدني، بدأت ثقافة الدفاع المدني تنتشر تدريجيًا في المناطق الساخنة بسوريا، تركز عملها على انتشال الضحايا ورفع الأنقاض.

في البداية كانت فرقًا تطوعيةً بدائية تقوم بعمليات الإسعاف والإطفاء وإخلاء المباني، وسرعان ما تطور عملها وازداد تنظيمًا، وانتقل من إطار العمل الطبي إلى الاختصاص، وتحولت هذه الفرق إلى جهاز موحد عرف باسم “الدفاع المدني السوري” ينتشر في المحافظات السورية الخاضعة لسيطرة المعارضة.

لاقى الدفاع المدني السوري، أو ما يعرف بـ “الخوذ البيضاء”، اهتمامًا عالميًا وإشادة بإنجازاته كونه جسد الحالة المدنية السورية بأسمى معاني الإنسانية، حين تعرض عناصره على اختلاف تخصصاتهم للقصف اليومي خلال محاولات الإنقاذ التي قاموا بها.

وتقدر حصيلة المدنيين الذين أنقذهم الدفاع المدني، العام الماضي، بأكثر من 56 ألف مدني، ما أسفر عن مقتل 130 متطوعًا منهم، من أصل ثلاثة آلاف عنصر يشكلون “الخوذ البيضاء”.

وسبق أن ترشح عناصر “الدفاع المدني” لجائزة “نوبل” للسلام عن مختلف الأعمال التي أنجزوها في الحياة المدنية، إلا أنهم لم يفوزوا بها، وحصلوا على جائزة “نوبل البديلة” في أيلول 2017، والصادرة عن مؤسسة “Right Livelihood” السويدية، كما حصل فيلم وثائقي عن “الخوذ البيضاء” على جائزة أوسكار عام 2017.

تلك المؤسسات التي جسدت الصورة المدنية للمجتمع السوري بعيدًا عن العسكرة، مثلت الشق الإيجابي للحراك السلمي في سوريا، إلا أن مصيرها يبقى رهن الحل السياسي للملف السوري والذي لا يزال أفقه بعيدًا، وفق المعطيات السياسية والعسكرية.

مقالات متعلقة