عَن الشرق السوري المُحطّم

لافتة في مخيم في فرنسا تطالب بالصلاة لأجل دير الزور - 7 كانون الأول 2015 (AFP)

camera iconلافتة في مخيم في فرنسا تطالب بالصلاة لأجل دير الزور - 7 كانون الأول 2015 (AFP)

tag icon ع ع ع

نذير حنافي العلي

نجيد قراءة النَّواب أفضل من الآخرين، ونستمع لقصائد السياب في أغاني فؤاد سالم، وبعذابات هذا و ذاك نهاجر وندمدم على طول الرحلة: قتلتنا الردة.. قتلتنا الردة، إن الواحد منا يحمل في الداخل ضده.

ما قبل الثورة حملت حقائبي بعيدًا عن ماء الفرات العذب متجهًا إلى البحر، الذي مازالت ملوحته تحرق عيناي في الصيف من رطوبة لم أتعود عليها طوال خمس سنوات من حياتي هناك في مدينة اللاذقية.

لا يخفى على القارئ أنه قبل أعوام قريبة، ما قبل انبلاج الصبح كي يقول ثورة، كان الشرخ بيننا، كنهريّين، وبين المدن السورية كبير جدًا، وذلك على قدر ما كان مطلوبًا لبقاء سلطة الأسد وتعزيز تلك السلطة بالحفاظ على تلك الفوارق من خلال تعزيز النزاعات بين المدن السورية.

وفي عرض هذه النزاعات المحلية نشأت ثقافة مغلوطة وأحكام مسبقة ضد الشرق السوري، أستطيع تصويرها في سخرية أسئلة كنا نتعرض لها على طول احتكاكنا مع أهالي المدن الأخرى وأتذكر كيف أصابتنا نوبات من الضحك الطويلة حين نتلقى تلك الأسئلة من الزملاء عن شكل الخيام التي نعيش فيها في الشرق السوري، كان جوابنا بأنها خيمة ذات طابقين.

في غرابة السؤال أو حتى عفويته يمكن القول إن النمط الذي عززه إعلام الأسد عن الشرق السوري هو الجهل المتفشي كسمة عامة لتلك المناطق وغالبية سكانها من البدو الرُحّل أو مجموعات بشرية تعيش في نظام قَبلي صارم، من خلال بث مسلسلات بدوية عززت هذا المشهد بإصرار وعلى الدوام مع لقطات جانبية لنهر الفرات الذي كان سكانه يعيشون أزمة مياه شرب و قلة التنمية الزراعية واضطهادًا اقتصاديًا رغم وفرة النفط والزراعة التي تذهب عوائدها لعائلة الأسد باستمرار، فلا هي في سلة سوريا كشعب ولا في سلة المدن التي تصدرها، بل وكانت على حساب تفقيرها و تهمشيها على كافة الصعد السياسية و التعليمية و التنموية.

لا أريد أن أقف الآن على مظلومية تاريخية للشرق السوري منذ استلام البعث مقاليد السلطة في سوريا. على العكس تمامًا هذه المظلومية برأيي نتقاسم عذاباتها جميعنا كسوريين. لكن مازالت تلك النقاشات الحادة والمتأزمة تنطلق بين الحين والآخر وتعيد إلى أذهاننا ذات الخطاب الذي جعله النظام صورة خالدة في أذهان السوريين عن الشرق السوري، رغم أننا كنا نأمل بأن الثورة قد محت تلك الصور وأحلت بدلًا عنها آمالًا وآلامًا مشتركة، لكن الحقيقة دون ذلك مع تجدد خطاب يُذكّر دائمًا بالفوارق الاجتماعية وتكرار مصطلحات ذات معان مؤذية وأخرى تجسد صراعًا متجذرًا لتبادل التهم، وما رافقه من مقطع مصور لمجند أسدي قيل إنه من شرق سوريا يدعى “خلف” تناقله الكثيرون قاصدين إيذاء الشرقيين على أنهم جزء أساسي من عنف النظام السوري وفساد منظومته الأخلاقية، متناسين عنف السلطة ككل وتجنيدها لخلف كحالة عامة في سوريا، حتى باتت كل مدينة سورية ولّادة لـ “خلفات” كثر.

لا معنى للدفاع برأيي عن حقيقة ما عاناه الشرق السوري من ويلات، ابتداءً بقوى النظام وانتهاءً بقوى إقليمية دخلت في لب الصراع، مستفيدة من تمدد تنظيم الدولة هناك على مرأى و مسمع فصائل الثورة، التي لم تعِ في منتصف عام 2013 معركتها ضد التنظيم وتركت الشرق السوري وحيدًا حتى استنزفت تلك الميليشيات الإرهابية كل طاقته وهاجمت ناشطيه وفككت منظمات الثورة فيه ودمرت ما لم يدمره الأسد بطائراته، ومن ثم انقضت عليه ميليشيات قسد وفلول النظام المتحالفة معها وتشكيلات يقال إنها عشائرية أعاد فيها النظام العشيرة كمركب سياسي لخدمة مصالحه، رغم أن الثورة تجاهلته في بداياتها وتحدثت عن خطاب ثوري جامع، حتى انتهى المطاف اليوم باحتلال أمريكي وروسي يقود تلك القوى العمياء كقوى احتلال تفرض أجنداتها على المنطقة مع حركة نزوح قاسية إلى حدود مغلقة وصحراء يعطش فيها الجميع بلا استثناء، وهي بطبيعة الحال من ارتدادات معركة الرقة.

وبات الشرق السوري مهددًا اليوم أكثر من أي وقت مضى، كما هو الحال لكثير من المناطق السورية، ليس فقط لغياب القوى الثورية أو الأهلية في المنطقة بشكل كامل، بل أيضًا لقربه من العراق و مع انتهاء معركة الموصل سيتجدد خطاب الميليشيات العراقية الطائفية في اقتحام الحدود لإنقاذ النظام وإعادة تأهيله هناك، خاصةً مع أنباء تحدثت عن نية قاسم سليماني نقل مجموعات من ميليشيا “فاطميون” إلى البادية وتمركزها على الحدود السورية العراقية، ووصول قوات النظام لمساندتها وتشكيله لميليشيات تحت مسميات الحشد الشعبي، ناقلًا تجربة العراق الرثة إلينا، مع دعم إيراني كبير لتلك التشكيلات الميليشيوية، يجعل هذا الشرق في حالة غليان متفاقمة ووكر أفاعٍ لصراع إيراني وأمريكي وتركي في المستقبل.

مع ذلك ورغم تلك المخاطر والإشكاليات مازال البعض يتحدث بخطاب مناطقي فج وساذج، معززًا صراعات مناطقية لا يستطيع تجاهلها في الوقت الراهن رغم قنابل الفوسفور التي تفتك بهذا الشرق المحطّم، ليبدو أننا كسوريين غارقون في فوضى السُباب والشتم بدلًا عن الانشغال في مشاريع وطنية، والابتعاد عن مهاترات فاشلة ولغة خطابية لا معنى لها، فرغم تشاركنا مصيرًا واحدًا في خارطة سوريا لا نستطيع بعد فهم جغرافية تشكلّها.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة