عالم من الطرشان

tag icon ع ع ع

إبراهيم العلوش

ترعبني سماعات الأذن التي يدمن عليها الجيل الجديد من السوريين، أُصاب بالهلع كلما رأيت شابة أو شابًا سوريًا يضع سماعات الأذن، حاولت كثيرًا إقناع بعض الشباب أن يكفوا عن هذه العادة التكنولوجية الجديدة التي يمارسها شابات وشبان العالم كلهم، ولكن على الشباب السوري ألا يمارسها، وألا ينحدر بإرادته إلى الطرش.. لكنّ أحدًا ما لم يقتنع بأسبابي ولا برهابي التكنولوجي هذا حتى الآن.

اسمعونا، ولا تسدّوا آذانكم وتتجاهلونا، فالصمم الذي تتسبب به هذه السماعات سيزيد وضعنا سوءًا، وسيعيد تكرار أغنية “يابو مرعي” التي كان يغنيها وديع الصافي، وتكرّرها إذاعة دمشق -بشماتة- طوال عقود وبشكل متواصل.. ويا مسكين يا أبو مرعي شو سمعك ثقيل!

لقد عشنا تحت الأحكام العرفية وفي ظلها نشأنا، وترعرعنا، كما كنا نكتب دائمًا باستمارات التعريف المخابراتية، في الجامعة، وفي الوظيفة، وعند الحصول على الموافقة الأمنية لفتح دكان، أو محل حلاقة، أو السفر، أو حتى عند تنفس الهواء في بعض أطوار وفورات النظام الأمنية.

في ظل هذه الأحكام العرفية كانت تدق طبول المعارك التي تصمّ الآذان، ضد العدو الذي يتربص بنا، وبقائدنا، وبحزبنا، وبمخبرينا وبجلادي مخابراتنا.

كانت طبول الحرب تصمّ الآذان، وتمنع الآخرين من سماعنا نحن مواطنو الأحكام العرفية الذين تربينا على الخوف كما تتربى العجول على السكون وقلة الحركة من أجل أن يظل لحمها طريًا.

نرجوكم اسمعونا، فنحن جيل رفض الجميع سماع صوته، لقد تسلحت كل الأطراف بالطرش ضدنا.. وكانت أغنية وديع الصافي (يا أبو مرعي) هي نشيدنا الوطني الحقيقي.

النقابات العمالية، والمهنية، والفلاحية، كانت تدق طبولها في محاربة أعداء التقدم والاشتراكية، ولاحقًا صارت تدق نفس الطبول لمحاربة أعداء حلف المقاومة، الذين يمنعون استكمال تدمير بلاد التقدم والاشتراكية، وإعادة هندستها طائفيًا وأيديولوجيًا. ويمنعونها من استرجاع نكهة الثمانينيات التي جعلت الخوف ينتشر كالهواء والماء، وكان الصمم، له تأثير سحري مزيّن بخطابات حافظ الأسد التي يكررها التلفزيون والراديو ليل نهار… وتبث في الدوائر الرسمية والمحلات العامة، وفي الشوارع والمدارس والجامعات، ولم تسلم حتى المراحيض العامة من دويّها الصاخب الذي يسد الآذان ويغتصب حياتنا.

وفي عالمنا الأصم كنت تجد رجال الدين مدمنين على رفع أصوات مكبرات الصوت في الجوامع، ويستمتعون بالصخب الذي يصمّ الآذان وهم يدعون للقائد وللأمة التي يجرّها خلفه، كما يجرّ الراعي قطيعه.

والكثير من أساتذة المدارس يحتلون الوقت ويساهمون بالصمم العام، إذ يدمنون الحديث، ويرفعون أصواتهم العالية، وهم يؤكدون وقوفهم خلف القيادة صفًا واحدًا، ويستخفون بأصابعنا المرفوعة على استحياء علّهم يسمعوننا، ولكن “كريزة” الهياج القومي والاشتراكي كانت تعصف بهم وترفع أصواتهم عاليًا، ويحتل بعضهم الإذاعات المدرسية ويحتكرون مكبرات الصوت فيها التي تخترق أجسادنا بدويها مثل أشعة كونية تصم الآذان، وتذهل العقول لتنفلت أغاني المطربين الهائجة وهي تنهش آذاننا، وتجبرنا على لصق أخلاق القائد-الرمز، القائد-الضرورة، في عقولنا.

وفي مسيرة الصمم والطرش القومي كانت شعارات الأحزاب تدوي في آذاننا، وهي تشرح استراتيجية الأمة في التصدي لقوى الإمبريالية العالمية، وتشرح ميزات الأمين العام للحزب، وهو يضحي بوقته (كأنه كان يشتغل مجانًا، ولم ينهب شيئًا)، ويضحي براحته من أجل النصر على الإمبريالية العالمية، وتنظيم الصفوف للمعارك المقبلة، ويصيح أنصار الأحزاب الوطنية التقدمية بهياج، ويؤكدون أن الصحف الأجنبية أشادت بحكمة الأمين العام، وبقدرته الخارقة على عدم التبول أثناء الاجتماعات مع الوفود الأجنبية، وكذلك تشيد بخبراته وتكتيكاته المفاجئة للعدو، والمربكة لعملائه الفارين أبدًا من أمام الجماهير العربية الاشتراكية المؤمنة، والتي أقسمت ألا ترتاح حتى تنتصر قيادتها الحكيمة.

وكان الطرش التقليدي بانتظار مخاتيرنا وتنظيمات عشائرنا.. فرؤساء العشائر كانوا عصبيين وهائجين من أي كلمة نقولها، ويرفعون أصواتهم عاليًا ويستخفون بالكلمات التي سنقولها لهم، فيزدادون هياجًا علينا لمجرد محاولتنا قول كلمتنا: لا وقت لكم الآن.. الدنيا “خربانة” والانتخابات النيابية على الأبواب، والعشيرة المعادية قد تنال كرسي النيابة بدلًا من عشيرتنا التي كانت دائما رمزًا للقوة والجبروت والمقامات العالية.

ويتركنا شيخ العشيرة مستحثًا خطاه باتجاه فرع المخابرات العسكرية، أو الجوية القريب، والذي سيضمن ترشيح شيخنا إلى المجلس النيابي، حيث سيشخر فيه، أو قد يستفيق شيخنا ليردد خطابات الإذاعة والتلفزيون، والجبهة الوطنية التقدمية، بنفس الصخب والضجيج الذي يصمّ الآذان.

أرجوكم لا تضعوا سماعات الأذن هذه، فأنا لست عدوًا لشركة “سوني” ولا لأي شركة تصنع هذه السماعات أبدًا… نريدكم أن تسمعونا وألا تصابوا بالصمم أمام كلامنا المرّ، وألّا تتجاهلوا المصير الأسود الذي وصلنا إليه.. اسمعونا قليلًا.. لم يطق أحد سماعنا، ولا أحد رضي بأخذ رأينا الذي توارى مع الزمن في أعماق خوفنا، اسمعونا قليلًا قبل أن تطلقوا سهامكم علينا.

نرجوكم يا شباب سوريا وشاباتها لا تضعوا هذه السماعات اللعينة، فمن حقكم ألّا تستمعوا إلينا، ما دمنا بنظركم لا نستحق الالتفات.. ولكن لا نريدكم أن تصابوا بالطرش، فلديكم مهام كثيرة، وأمامكم صعوبات تتراكم كالجبال، ولن تحلّ بهذا الطرش، ولا بالعزلة التي تقودكم إليها هذه السمّاعات.. على الأقل اسمعوا بعضكم بعضًا، وأنقذونا من هذا الصخب الذي يصم آذاننا عبر نشرات الأخبار المحلية، والإقليمية، والدولية، نريد منكم أن تسمعوا الحقيقة رغم الدوي والطبول المزعجة، وألّا تقتربوا في مسيرة الصمم التي عشناها، وزرعت الخوف في نفوسنا حتى دمرتنا جميعًا ودمرت بلادنا.

النازحون والمحاصرون الذين يهدهم الجوع والبرد، واللاجئون الذين تذلهم البلدان التي تنظر إليهم بتعالٍ وبشكوك أقرب الى الاتهامات، والمعتقلون الذين يطلقون زفراتهم وأنّاتهم في السراديب المظلمة، وأطفال الشهداء الذين تقاسمهم الأهل والمعارف، والأمهات الثكالى، والبلاد المحترقة بحاجة ماسة لتسمعوها، ولتسمعوا ما يتراكم في شعابها من غضب ومن آلام وأحلام.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة