“أُنجب.. لا أُنجب”..

 كيف تدخّلت الحرب في أكثر قرارات السوريين خصوصيّة؟

طفل سوري في مخيم في تركيا (IRIN)

camera iconطفل سوري في مخيم في تركيا (IRIN)

tag icon ع ع ع

حنين النقري – عنب بلدي

قرارات كثيرةٌ تسهم في رسم حياة كلّ منّا، المفصليّ منها والبسيط، نادر الحدوث والمتكرر بشكل يوميّ، ليتخذ الإنسان ما يناسب مصلحته وفقًا للظروف والمعطيات.

وبما أن الحرب دخلت بيوت كل السوريين، فقد تدخّلت باتخاذ كل قرارتهم تقريبًا، أرغمتهم بظروفها على خيارات دون أخرى، وحالت بينهم وبين ما يرغبون فيه. فتحكمت باختيارهم أبسط أمور حياتهم كالتنقل ونوع الطعام واللباس والمسكن ومواعيد النوم واليقظة، إلى أكثرها خصوصية ومحورية كالسفر، النزوح، التعليم، العمل، الزواج، والإنجاب.

أخٌ أم أُخت؟

كما جميع السوريين، أثّرت الحرب ونتائجها على أدق تفاصيل حياة السيدة نهلة، من الغوطة الشرقية، وهي في أواخر الثلاثينيات، ومن بينها إنجاب أخ أو أخت لابنها البكر بلال، تقول نهلة “كان بلال في الرابعة من عمره عندما بدأنا بالتفكير بإنجاب أخٍ أو أختٍ له، كنا نعيش حياة سعيدة بعد تحرير الغوطة الشرقية، مع وتيرة قصف وطيران أقل بكثير مما هي عليه اليوم، وهكذا حملتُ بالفعل”.

في الشهر الرابع من الحمل استهدف النظام غوطة دمشق بالكيماوي، ولم تتوقع نهلة أن تكون خسارتها أكثر من بضعة شهداء في محيطها وأقربائها، تضيف “اعتقدتُ أن القصف لم يؤثر على حملي أو جنيني وحمدتُ الله على ذلك، إلا أنني كنتُ مخطئة، وقد تبيّن ذلك لي بعد الولادة”.

انتظرت العائلة قدوم الطفل الجديد بلهفة وشوق، مع تجهيزات وتحضيرات للضيف الجديد، تتابع نهلة “كنا ننتظر قدومه بفارغ الصبر، روحٌ جديدةٌ تبثّ الحياة فينا، اخترنا أسماء للذكور والإناث وثيابًا تناسب الجنسين لعدم تأكيد الطبيبة جنس المولود”.

قلبٌ عليل

في برد كانون الثاني جاء اليوم المنتظر وأبصر الجنين النور بولادةٍ قيصريّة، تصف نهلة ما حدث “فور زوال تأثير المخدر عني بعد العملية طلبتُ منهم أن أرى ابني فأخبروني أنه في الحاضنة، وشعرتُ بوجود خطبٍ ما”.

توفّي الجنين بعد الولادة بأيامٍ قليلة نتيجة تشوهاتٍ خلقيّة في القلب “لم تخبرني الطبيبة طيلة فترة الحمل عن وجود خطب ما، جاء خبر تشوهات القلب لديه مفاجئًا، شُلّت كل أفكاري وعواطفي، نسيت آلام جسدي أمام آلام قلبي، لم يكن قلبُه العليل بل قلبي أنا، كل هذا الوجع لا يقارن بلحظة وفاته”.

تروي نهلة قصتها بغصة ودمعة، تلمس تكوّر بطنها أمامها بخوف، وتقول “أنا الآن حاملٌ مجددًا، وأنتظر المولود خلال الشهرين المقبلين، لا يمكن تخيّل كم ترددنا باتخاذ هذا القرار، خفتُ أن أعيد التجربة الماضية وأنجب طفلًا مشوّهًا، خفنا من ألم الفقد، وخيبة الأمل، أن نجلب إلى هذه الحياة طفلًا يشاركنا صعوبة الظروف التي نحياها في الحصار اليوم مع كل الخوف والدمار والتعب النفسي الذي يمكن أن يؤثر على صحّة الكبار والصغار معًا”.

ما حسم أمر نهلة وزوجها في النهاية هو مضيّ السنوات، تقول عن ذلك “العمر يمضي، أنا اليوم في أواخر الثلاثينيات، بلال دخل المدرسة وليس له أخ، توكّلنا على الله واتخذنا قرارنا”، وتستدرك بغصّة “لكنني خائفة، خائفة من خيبة النهاية”.

لن أنجب فيالسجن

بعد عامين من الخطبة أمضاها رفيف ومؤيّد في مظاهرات الميدان ومخيم اليرموك ومساعدة الجرحى والمصابين، وانتظار سقوط الأسد ليكون هدية لهما معًا، قرّرا في النهاية الزواج، يقول مؤيد “عندما بدأت الأمور تتحول إلى حرب عسكرية، شعرنا أنها تتجه لمزيد من التعقيد، وأن النفق سيطول بنا أكثر، وهنا لم نجد جدوىً من إطالة فترة خطبتنا فتزوجنا مع حفل بسيط للغاية جمع أصدقاءنا فقط في منزلنا المُستأجر، على أن يكون زفافنا الحقيقيّ يوم فرح السوريين جميعًا”.

بعد الزواج، بدأت الأسئلة تحوم حول العريسين من أهلها وأهله، الأصدقاء وزملاء العمل: “متى ستنجبان لنا وليّ العهد؟”، لكنهما كانا يُسوّفان على الدوام، تقول رفيف “كيف يمكن أن ننجب في ظل حكم مستبد؟ كيف يمكن أن أربّي ابني بحريّة، وأزرع لديه القيم التي أُحارَب لأنّي أحملها؟ ماذا سأقول له عن حواجز النظام؟ طيرانه الذي نعلم أنه يقصف منطقة أخرى؟”.

يُضيف مؤيد “كيف أروي له الحقيقة وأعلمه أن يكتمها؟ كيف أشرحُ له وجود عمٍّ له ممنوع أن يراه لأنه محبوسٌ في منطقة يحاصرها النظام الذي أُربّيه في ظله؟ نحن نعيش في سجنٍ كبير، ولا أرغب بأن أُنجب ابني لأعلّمه قوانين هذا السجن”.

ومحالٌ أن ينتهي الليمون

خلافًا لرفيف ومؤيّد، ترى رنا، وهي معلّمة لغة عربية في دمشق، أن الحرب يجب أن تكون دافعًا للجميع لإنجاب المزيد من الأطفال، للتعويض عن ضحاياها اليوميّين، تقول “أرى حولي الكثيرين ممن يشتكون من سوء الأوضاع الاقتصادية والأمنية، ويؤجلون أو يلغون قرارهم بالإنجاب، لكنني لا أرى في ذلك صوابًا، ولنا في أهل فلسطين أكبر مثال”.

أنجبت رنا طفلَين خلال أعوام الثورة، وتقول إنهما وحدهما ينسيانها ما تراه من مآس كل يوم، تتابع “لدينا الآن أربعة أطفال هم سعادتنا وكنزنا في الدنيا أنا ووالدهم، وحدهم من يمدّون حياتنا بالأمل أمام كل ما نراه”.

مع بساطة أوضاعهم الماديّة تحمد رنا الله، وتعلّق على الصعوبات الأمنية والمادية التي يعيشونها “الروح بيد الله ولن نستطيع أن نحميهم من أجَلهم في سلمٍ أو في حرب، أما عن الرزق، أمورنا مستورة والحمد لله، ولا تنسي أن (كل ولد بيجي وبتجي رزقته معه) كما يقول المثل، ربّكِ لا ينسى أحد”.

هل نُنجب نازحًا آخر؟

بعد أشهر من زواجهما، اضطرّ تميم وألمى للخروج من سوريا كما الملايين من السوريين، واتجها إلى تركيا حيثُ ملايين السوريين أيضًا، وهنا كان قرارهما بألّا يزيدا عدّاد الملايين هذا.

يقول تميم “اليوم وبعد عامين من الزواج تُلاحقنا الكثير من الأسئلة، وبشكل خاص من عائلتي وعائلة ألمى، لكن هل يمكن أن ننجب لنرضي من حولنا بقرار لسنا مستعدَّين له الآن؟”.

تُشير ألمى إلى أن العقبات التي تحول أمام قرار الإنجاب ليست قليلة، وزادت اليوم في ظل الحرب والنزوح “للسلم أحكامه وللحرب أحكامها أيضًا، ليس من السهل أن تأتي بإنسان إلى ظروف بهذه الضبابية والقسوة، حياتنا كسوريين في تركيا غير مستقرّة، ولا قرار واضح يخصّنا”، وتضيف مستدركةً “عدا عن أن قرار الإنجاب في الأساس وفي كل الأوقات يجب أن يُدرس بشكل كبير، أن تكون مسؤولًا عن وجود إنسان في هذه الدنيا ليس أمرًا بسيطًا”.

يضيف تميم أن قرار الإنجاب يستلزم وجود ظروف معيّنة ليست متوفّرة لديهما اليوم “لسنا مستقرّين ماديًا ولا قانونيًا، يُتيح لنا تأجيل قرار الإنجاب حاليًا تحسين وضعنا الاقتصاديّ، تأمين متطلبات حياة عائلة من شخصين أمر أقل عبئًا بالتأكيد منه لثلاثة أو أربعة أفراد، ما يمنحنا الوقت لتنمية مهارات نحن بحاجة لها للسعي لتحسين أوضاعنا كسوريين في الغربة، على الأقل”.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة