عمر الحلبي – عنب بلدي
عززت أعمال العنف في سوريا وتراخي مفاصل الاقتصاد الرسمي بعدما دخلت البلاد في أتون الأعمال العسكرية، ما بات يعرف بـ “اقتصاد الحرب“، وبعبارة أخرى بات “التحايل” السمة الأبرز لكل من هو متورط في الصراع للإيحاء بأنه على قيد الحياة وبأنه يؤمّن من موارده الخاصة نفقات هذه الحرب.
وأفرزت حالة الفوضى التي دخلت فيها البلاد بعد انشغال النظام بقمع الثورة، وانشغال المعارضة في مواجهة القوات الحكومية، أشخاصًا أصبح همهم جمع المال والارتزاق على ممتلكات ومدخرات السوريين، فانتشرت أعمال السلب والنهب والخطف، والابتزاز، وانتعشت الأسواق السوداء غير النظامية لعدد كبير من السلع، مثل الخبز والمحروقات والأدوية والعملات، وكذلك انتشرت التجارة غير الشرعية بالآثار والنفط والبشر والأسلحة، وبات في صالح “أمراء الحرب” استمرار هذا الوضع نظرًا للمكاسب الكبيرة التي تتحقق وماتزال.
لكن بقيت الليرة الأكثر تضررًا، فالسياسة التي اتبعها المصرف المركزي السوري ومنذ اللحظة الأولى لبدء تراجع الليرة أمام العملات الأجنبية على خلفية الاحتجاجات، عززت تراجعها، كونه “دخل مضاربًا في عمليات البيع والشراء على العملات”، كما يقول بعض المحللين الاقتصاديين المطلعين على سياسة المركزي في هذا الجانب.
عمليات فاشلة
مع بدء العمليات التي أعلن عنها المصرف المركزي للتدخل في سوق القطع الأجنبي، حاول الأخير رسم صورة تظهره صاحب اليد الطولى في السوق، وأنه القادر على ضبط سعر الصرف عند مستويات محددة منعًا من التدهور أكثر، لكن بالنتيجة، وعلى امتداد سنوات الثورة، تراجعت الليرة أمام الدولار إلى حدود 630 ليرة، وفقدت في الأسبوعين الأخيرين حوالي 20% من قيمتها. ولا يريد “المركزي” ومنذ اليوم الأول للتدهور الاقتصادي الاعتراف بأن السبب الحقيقي لتدهور الليرة هو توقف الاقتصاد وانعدام المداخيل والواردات من القطع الأجنبي، المتأتي عن عمليات التصدير والسياحة والتبادلات التجارية بين سوريا ودول الجوار والغرب، وكذلك استمرار استهلاك المخزون الاحتياطي من العملات الأجنبية، حتى “جف” هذا الاحتياطي وفق بيانات صندوق النقد الدولي، والتي سارع المركزي لنفيها منعًا لمزيد من الانفلات في سعر الصرف.
يقول الكاتب الصحفي في موقع “روسيا اليوم”، حسين محمد، “المشكلة التي يواجهها البنك المركزي السوري تتمثل في عدم امتلاكه سيولة كافية لضخ كميات كبيرة من العملة الصعبة إلى السوق، وحتى لو توفرت هذه السيولة لديه، فإن السوق بفعل الحرب سرعان ما ستبتلعها وتطالب بأخرى. وفي المقابل، لا تسهم السيولة المحدودة، التي يضخها البنك، في تلبية حاجات السوق التجارية أو حتى غير التجارية”.
إذًا يمكن القول، إن تدخل المركزي وعدمه يتساويان من حيث النتائج وانعكاسها على وضع الليرة في السوق، لأن مفعول جلسات التدخل الأسبوعية والشهرية سرعان ما ينتهي عند أول “هزة” قد تتعرض لها الليرة سواء في السوق السوداء كارتفاع الطلب على العملة الأجنبية، أو جراء المعارك العسكرية والأخبار السياسية المرتبطة بالصراع السوري.
ويوضح كاتب صحفي من دمشق لعنب بلدي، (رفض الكشف عن اسمه لأسباب أمنية)، “أن من مصلحة المصرف المركزي ارتفاع سعر الدولار”، لماذا؟ يشرح قائلًا “يتلقى النظام دعمًا من روسيا وإيران بالقطع الأجنبي سواء عبر إمدادات مباشرة أو عبر الخطوط الائتمانية، ومن مصلحته أن يبلغ سعر صرف الدولار مستويات مرتفعة لكي يؤمّن أكبر قدر ممكن من الليرات السورية، والتي يوظفها في دفع مرتبات الموظفين الحكوميين، والعسكريين، والميليشيات التي تقاتل على الأرض… أن يكون سعر الدولار بـ 600 ليرة، أفضل لخزينة النظام من أن يكون بـ 300 أو 400 ليرة، كلما ارتفع سعر الصرف زادت خزينة النظام من الليرات”. لكن هذه المقاربة فيها نوع من المبالغة لجهة أن الرقم المعلن لمساعدات إيران للنظام عبر الخطوط الائتمانية لم تتجاوز أربعة مليارات ليرة منذ العام 2011. كما أن القطع الأجنبي الداخل إلى مناطق المعارضة يذهب بشكل أو بآخر ليستقر في المركزي السوري، بعدما يقدم المواطنون في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام إلى تحويل هذه العملة الأجنبية إلى عملة محلية لشراء الحاجيات اليومية.
ويدلل هذا النهج على أن المواطن السوري هو من تحمل عبء هذه السياسة النقدية، كونها ساهمت بارتفاع الأسعار وزيادة التضخم لمستويات فاقت 300%.
لكن المركزي يبدو أنه مستمر في سياسة التدخل الحالية، لاقتناعه بنجاعتها ولكونها تحد من وتيرة تدهور الليرة إن لم تكن توقف التدهور بشكل كامل، يقول حاكم مصرف سوريا المركزي، أديب ميالة، معلقًا على التحسن “الطفيف” لسعر الصرف وتراجعه من مستوى 630 ليرة إلى حوالي 600 ليرة “يجب أن ينعكس التحسن الملموس الذي طرأ على سعر صرف الليرة مؤخرًا إيجابًا على أسعار السلع في السوق، والمصرف يسعى من خلال خطة التدخل الجديدة إلى تقليص الفجوة بين أسعار الصرف الصادرة عنه من جهة، والفجوة بين هذه الأسعار والأسعار السائدة في السوق من جهة أخرى”.
طابور ثالث يبتلع الليرة
وبالعودة إلى “اقتصاد الحرب” وما أفرزه هذا المسمى من ظواهر على امتداد الأرض السورية، ساهم عدد كبير من المستفيدين، ويصلح تسميتهم بـ”أمراء الحرب”، بحالة الفوضى، وتدهور الليرة، بعد أن ساهموا بأعمال المضاربة، ووقفت إلى جانبهم أيضًا سياسة المركزي في التدخل بالسوق، والتي تشجع على استبدال العملات عبر شراء الدولار من شركات الصرافة وبيعها في السوق السوداء والاستفادة من فارق السعر، وبالتالي “جني الأرباح” على حساب قيمة الليرة.
المستفيدون من حالة الحرب، والتجار والسماسرة الذين يمارسون أعمالًا احتكارية ويتاجرون بطريقة غير شرعية في الخفاء وأحيانًا في العلن يتدفق عليهم يوميًا ملايين الليرات، سرعان ما يقومون باستبدالها بعملات أجنبية للحفاظ على قيمة مدخراتهم التي جنوها خلال هذه الفترة، لأنهم ببساطة “لا يثقون بالليرة السورية”، وهم بهذه الحالة يرفعون الطلب على العملات الأجنبية وينعشون السوق السوداء.
يقول أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة دمشق، الدكتور عارف دليلة، في معرض تعليقه على ظاهرة تدهور الليرة، لـ CNBC عربية “عدد محدود من الناس يتجمع لديهم يوميًا منذ بدء الأحداث وعلى مدار عشرات السنوات قبل الأحداث، ملايين الليرات السورية، لا يستطيعون أن يناموا قبل أن يقلبوها إلى عملات ثانية، وهؤلاء مسؤولون عن انهيار الليرة السورية”.
ويتساءل دليلة “الموظف الذي يتقاضى 20 ألف ليرة شهريًا، هل يدخر من المبلغ شيئًا ليخلق طلبًا على الدولار؟”، مشيرًا إلى أن هؤلاء يجمعون يوميًا مبالغ كبيرة، وعلى السلطة أن تتجه إليهم لإغلاق الباب أمامهم لجمع الثروة بهذه الطريقة، وأن تستعيد منهم ما جمعوه خلال السنوات الماضية، لإعادة توزيعه، وإعادة الحياة الطبيعية.
وكان تقرير المركز السوري لبحوث السياسات، أشار إلى أن معدل الفقر وصل إلى 82.5% مع نهاية العام 2014، وسجّلت بعض المحافظات، مثل إدلب، أعلى معدل للفقر وصل إلى 82%، كما تعاني محافظات دير الزور وريف دمشق والرقة من معدلات فقر مرتفعة.
وبلغت خسائر الاقتصاد السوري حتى نهاية العام 2014 حوالي 202 مليار دولار أمريكي، وتعادل الخسارة بالأسعار الثابتة 276% من الناتج المحلي الإجمالي للعام 2010، فيما كشفت دراسة أخرى أجراها مركز “فرونتيير إيكونوميكس” الأسترالي للاستشارات، ومؤسسة ورلد فيجن الخيرية “أن الخسائر الاقتصادية في سوريا تقدر بنحو 689 مليار دولار إذا توقف القتال هذا العام، وأنها قد تصل إلى 1.3 تريليون دولار إذا استمرت الحرب حتى عام 2020.