قبل العام 2011، كانت الصورة الذهنية لدى عدد كبير من السوريين عن مدينة تدمر تتمحور حول أمرين، الأول يعكس صورة جميلة عن سوريا ومكانتها التاريخية كونها أحد أشهر المدن الأثرية، والثاني يعكس الخوف والرعب عن أحداث سجنها الذي كان مقبرة لمعارضي الرئيس السابق، حافظ الأسد، ووريثه بشار.
صورتان مختلفتان حول المدينة العريقة المتربعة وسط سوريا، والتي تحيطها أراضي البادية من مختلف جوانبها.
مع بداية الثورة السورية في آذار 2011، انخرط أبناء تدمر شرق حمص في المظاهرات السلمية، ولاقوا نفس مصير متظاهري بقية المحافظات، القمع من قبل أجهزة الأمن، لتبقى المدينة تحت سيطرة النظام إلى أن دخلها تنظيم “الدولة الإسلامية” في أيار 2015.
بدأت بعدها حقبة جديدة مختلفة عن سابقتها ستضيف صورة جديدة عن المدينة، إثر إصدارات التنظيم على مسرحها، وما تبعه من محاولات قوات النظام وروسيا وميليشيات إيران للسيطرة عليها، لتستطيع بعد نحو عشرة أشهر دخول المدينة في آذار 2016.
سيطر “التنظيم” مجددًا على المدينة في كانون الأول 2016، لتعود قوات النظام السوري للسيطرة عليها بعد نحو ثلاثة أشهر (مطلع آذار 2017).
انتهت سيطرة التنظيم على المدينة، لتعيش بعدها مآسي أخرى تضاف لما عاشته في ظل سيطرة تنظيم “الدولة”، فالقوى التي شاركت النظام في السيطرة عليها رسمت خريطة عسكرية للمدينة ما زالت حتى اليوم، خاصة مع وجود ميليشيات إيران المتعددة الجنسيات، إلى جانب “حزب الله” اللبناني، وميليشيات محلية معظمها شيعية.
ضربة عسكرية
هذا الانتشار العسكري أعاد تسليط الضوء عليه الضربة الإسرائيلية الأحدث على المدينة، الأربعاء 20 من تشرين الثاني، إذ كانت الضربة الإسرائيلية الأعنف من حيث عدد القتلى، وقياسًا ببقية الاستهدافات التي نفذتها إسرائيل في سوريا، وذلك بعد تصعيد قصفها منذ عملية “طوفان الأقصى” في 7 من تشرين الأول 2023.
الضربة أدت إلى مقتل 36 شخصًا وإصابة أكثر من 50 آخرين، بحسب وزارة الدفاع في حكومة النظام، ولم تقدم الوزارة بيانات تفصيلية حول أعداد المدنيين والعسكريين القتلى والمصابين جراء الاستهداف الإسرائيلي.
عنب بلدي رصدت مجموعة من النعوات لقتلى في الاستهداف، أغلبيتهم ضباط في قوات النظام، أعلاهم رتبة اللواء عبد الله الزير، من قرية الرقة غربي حمص.
ويغلب على الأسماء التي رصدتها عنب بلدي أنها تنحدر من مناطق تتهم بانحياز كثير من أبنائها إلى جانب النظام السوري، بناء على عوامل طائفية.
من جانبه، ذكر “المرصد السوري لحقوق الإنسان” (مقره لندن) ارتفاع حصيلة القتلى إلى 82 شخصًا جراء الاستهداف في تدمر، 56 منهم من الميليشيات الموالية لإيران من جنسية سورية، بينهم ثمانية ضباط وصف ضباط متعاونين مع “حزب الله”، و22 من جنسية غير سورية، غالبيتهم من “حركة النجباء”، وأربعة من “حزب الله” اللبناني.
محمد، من أبناء تدمر يقيم حاليًا في إسطنبول، قال لعنب بلدي حسبما نقله عن أصدقاء وأقارب يقيمون في تدمر، أن إيران نقلت سلاحًا من مستودعات لها في جبل العمور غربي تدمر، ووزعته في أماكن مدنية عدة، منها مدارس.
القصف الإسرائيلي الأحدث طال مدرسة الصناعة ومنطقة الجمعيات الغربي وقرب الفرن الآلي، وسط مخاوف بين المدنيين من ضرب مواقع أخرى نشرت فيها الميليشات أسلحتها.
وتوجد قوات روسية وقوات النظام في المنطقة، لكن الانتشار الأكبر والظاهر بشكل واضح هو الميليشيات التابعة لإيران.
ما القوات العسكرية
هوية وتبعية قتلى القصف تعكس جانبًا من القوات العسكرية في المنطقة، والممتدة منذ السيطرة عليها وإخراج تنظيم “الدولة” منها في آذار 2017، والتي رصدت عنب بلدي حينها عدة مجموعات عسكرية في المعركة هي:
الجيش الروسي ومرتزقة روس
الداعم الأساسي لقوات النظام السوري والميليشيات البرية في معركة تدمر، وقدم غطاءً جويًا للعمليات العسكرية.
وكان للخبراء العسكريين الروس حضور على الأرض، وهو ما كشفته روسيا حينما أعلنت مقتل أربعة منهم بعبوة ناسفة في محيط قاعدة “T4” الجوية، في شباط 2017.
شاركت ميليشيا “صيادو الدواعش” أيضًا، وهم عبارة عن متطوعين روس في ريف حمص الشرقي، معظمهم قاتلوا في الجيش الروسي سابقًا، تتكون الميليشيا من 100 مقاتل روسي، يتقاضون أجورًا عالية لقاء دعمهم قوات الأسد.
وأظهرت صور نشرها مراسلون حربيون روسيون في سوريا مشاركة مرتزقة “فاغنر” في تدمر.
ميليشيات محلية
“الدفاع الوطني” وميليشيا “نسور الزوبعة” التابعة لـ “الحزب القومي السوري” شاركا أيضًا في معركة تدمر العام الفائت، وتشارك حاليًا في معارك استعادة المدينة، كما بيّنت حساباتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
“قوات الرضا”، وهي ميليشيا قوامها مقاتلون من قرى موالية في ريفي حمص الغربي، وتلقى أفرادها تدريبات على يد “الحرس الثوري” الإيراني.
ميليشيات إيرانية
“قوات باسيج” تعدّ قوات التعبئة في “الحرس الثوري”، الذراع الإيراني الأقوى في سوريا، وشاركت في معظم معارك قوات النظام شمال وجنوب ووسط سوريا حينها.
“فاطميون”، وهي ميليشيا أفغانية مدعومة إيرانيًا أرسلتها إيران لدعم النظام السوري، وبحسب ما رصدته عنب بلدي على حساب الميليشيا في “تلجرام” مازال لديها حضور إلى اليوم وتجري تدريبات عسكرية في المنطقة، وتنشر أسماء عناصرها الذين قتلوا في معارك تدمر.
“كتائب الإمام علي”، وهي ميليشيا شيعية تابعة لـ “الحشد الشعبي” العراقي، وأعلنت أنها تشارك في مواجهات تدمر، تحت إشراف “الحرس الثوري” الإيراني أيضًا.
“حزب الله” اللبناني كان له وجود في معركة تدمر خاصة على المحور الغربي من المعركة.
منع عودة
عملت إيران بعد السيطرة على تدمر في آذار 2017، على ترسيخ وجود ونفوذ ميليشياتها في منطقة تدمر وريف حمص الشرقي، ومنحها انشغال روسيا بحرب أوكرانيا منذ 24 من شباط 2022، فرصة إضافية لتحقيق ذلك.
الميليشيات الإيرانية منعت العديد من أهالي تدمر من العودة إلى بيوتهم، خاصة في الأحياء القريبة من المدينة الأثرية.
كما تمركزت في عدة فنادق مشهورة في المدينة الأثرية وهي فندق “مريديان تدمر” وفندق “زنوبيا” وسلسلة فنادق “غسان سعد”، إضافة إلى تثبيتها عدة حواجز عسكرية أبرزها عند مدخل الحي الشرقي، يُعرف باسم “حاجز الفندق”.
منع الأهالي دفعهم للبقاء خارج المدينة أو الانتقال إلى أحياء أخرى.
“مجلس عشائر تدمر والبادية السورية” حذر من التغلغل الإيراني وشدد على ضرورة التصدي للمد الإيراني في المنطقة وأتباع الميليشيات الإيرانية، والوقوف في وجه التغير السكاني الذي تعمل عليه الميليشيات الإيرانية في مدينة تدمر ومحيطها.
وقال المجلس في بيان سابق له، إن إيران شرعت ببناء مئات المنازل وشراء العديد أيضًا بالترهيب، والاستيلاء على محطات الوقود والمحال التجارية والأراضي الزراعية، وتسخيرها لبناء نظام اقتصادي تديره وتستفيد منه الميليشيات الإيرانية وحلفائها في المنطقة، وخصوصًا في تدمر.
بحسب دراسة لمركز “جسور للدراسات” تمتلك إيران حتى منتصف العام الحالي 529 موقعًا عسكريًا، وهي الدولة صاحبة الانتشار العسكري الأكبر في سورية مقارنة مع بقية القُوَى الأجنبية.
وبالاطلاع على خريطة الانتشار العسكري لمركز “جسور” نجد أن هناك سبع مواقع عسكرية في تدمر، وخمسة مواقع في مدينة السخنة شرقي تدمر، وموقعين غربها.
المواقع الإيرانية في سوريا، بحسب “جسور” عبارة عن 52 قاعدة عسكرية، و477 نقطة، متوزعة على 117 موقعًا في حلب، و109 بريف دمشق، و77 في دير الزور، و67 في حمص، و28 في حماة، و27 في إدلب، و20 في القنيطرة، و17 في اللاذقية، و16 في درعا، و14 في الرقة، و13 في السويداء، و9 في طرطوس، و8 في الحسكة و7 في دمشق.