لمى قنوت
مع سياق حملة الـ16 يومًا من النشاط لمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي، وهي حملة سنوية عالمية تبدأ من 25 من تشرين الثاني، في اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد النساء، وتنتهي في يوم حقوق الإنسان، 10 من كانون الأول، والمتزامنة مع اليوم الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني الموافق في 29 من تشرين الثاني، الذي أقرته الأمم المتحدة منذ عام 1979، يغيب تناول آثار العنف ضد الفلسطينيات والتضامن معهن بعد عدوان الكيان الصهيوني على غزة في الكثير من الحملات التي أطلقتها أغلب المنظمات النسوية أو منظمات المجتمع المدني المدافعة عن حقوق النساء والممولة من حكومات دول الشمال العالمي التي دعمت الكيان الصهيوني في عدوانه على غزة.
ذلك يقودنا إلى أثر الأنجزة والتمويل على استقلالية هذه المنظمات واغترابها عن القضايا المحقة والعادلة والتضامن مع الفلسطينيات بتنوعاتهن اللواتي يمارس الاحتلال عليهن وعلى أجسادهن عنفًا بنيويًا ممنهجًا للتحكم والسيطرة على أجسادهن من خلال نزع وكالتهن عن أجسادهن وحرمانهن من حرية القرار والاختيار والتحكم بقدراتهن الإنجابية، والذي هو نهج مركزي في جريمة الإبادة الجماعية.
العنف الإنجابي ضد النساء خلال العدوان على غزة
في ظل الحرمان القسري من كل أساسيات الحياة، والتدمير المتواصل، وقتل الفلسطينيين، نساء ورجالًا، والتشريد قسري لما يقارب 1.6 مليون شخص أصبحوا الآن نازحين داخليًا، والاكتظاظ السكاني في المراكز التي فتحتها “أونروا”، على سبيل المثال، التي فاقت سعتها أربعة أضعاف طاقتها، برزت أخطار تتعلق بالصحة والسلامة. تفتقر 690 ألف امرأة وفتاة في غزة إلى مستلزمات النظافة الشخصية والمياه والخصوصية بشكل عام وفي أثناء فترة الدورة الشهرية، ما اضطر الكثير منهن إلى تناول أدوية لتأخير الحيض، دون استشارة طبية، بسبب التهجير القسري والتشرد من مكان إلى آخر، وعدم توفر فوط الحيض ذات الاستعمال الواحد أو صعوبة غسل الفوط القماشية والملابس الداخلية بمياه نظيفة، إضافة إلى معوقات الوصول إلى دورات المياه العامة الصالحة للاستخدام بسبب خط الانتظار الطويل أو بُعدها عن مراكز الإيواء أو صعوبة تنظيفها.
إن بعض أنواع هذه الأدوية وعدم توفر المياه الصالحة للاستخدام والمراحيض النظيفة بشكل دائم يزيد من نسبة التهابات المسالك البولية عند الإناث بفعل التركيب الفيزيولوجي لأجسادهن، إذ تُعد الإناث عرضة لهذا النوع من الالتهابات بما يصل إلى 30 مرة أكثر من الذكور.
منذ بداية العدوان على غزة، أدى الهلع والخوف إلى حالات ولادة مبكرة وإجهاض عند العديد من الحوامل وانقطاع حليب المرضعات، وقُدِّر نحو 50 ألف امرأة حامل تعيش في ظروف قاسية، منهن 5500 امرأة كان متوقعًا أن تلد خلال شهر من تاريخ 20 من تشرين الثاني.
وأُجبرت أكثر من 180 امرأة يوميًا على الولادة في ظروف غير إنسانية ومهينة وخطيرة، دون ماء أو كهرباء للحواضن أو المستلزمات الطبية أو مسكنات للألم أو تخدير للعمليات القيصرية القسرية، بدل الولادة الطبيعية. أما بعض الحوامل اللواتي تعرضن لنزيف في الأشهر الأخيرة من الحمل، فقد اضطر الأطباء إلى استئصال الأرحام لوقف النزيف حفاظًا على حياتهن بسبب نقص أكياس الدم الكافية، لكن ذلك أدى إلى موت بعضهن، مثل نور التي توجهت إلى مستشفى “العودة” في شمالي غزة، وأخبرها الطبيب الذي كان يعمل على ضوء الكشافات بسبب انقطاع الكهرباء بأنه سيجرى لها عملية ولادة قيصرية دون تخدير، وأعطتها الممرضة قطعة قماش معقمة لتضعها في فمها وتعض عليها لتخفف الألم. ومع آلامها الشديدة وهلعها وهي ترى بطنها مفتوحًا، خرج الوليد من أحشائها لكنها أصيبت بنزيف حاد، قرر الطبيب على إثره استئصال رحمها حفاظًا على حياتها وخاط جرحها وقطع الحبل السري دون مطهرات، لكن الصباح لم يطلع على نور التي توفيت في اليوم التالي.
بقيت مستشفى “العودة” وحدها تقدم خدمات الولادة في شمالي غزة وغزة الوسطى بعدما أخرج الاحتلال بقية المستشفيات عن الخدمة، وكان الأطباء يجمعون جميع حالات الولادة في غرفة واحدة لتوفير الكهرباء قبل أن تخرج المستشفى عن الخدمة، بعد أن أُجريت فيها 1352عملية ولادة طبيعية، و511 ولادة قيصرية، 150 امرأة أصبن بنزف حاد، و6% من إجمالي عمليات الولادة خضعت لاستئصال رحم منذ بداية العدوان على غزة وحتى تاريخ 23 من تشرين الثاني. الفرق الطبية كانت تعمل تحت الضغط الشديد بسبب القصف المتواصل ونقص الوقود والمواد الطبية ولجوء النساء اللواتي يرأسن أسرهن وأطفالهن إلى أروقة المستشفيات للاحتماء فيها وإنقاذ عائلاتهن.
الدور الرعائي
يتميز مجتمع قطاع غزة بقرب أهله من بعضهم بفعل الثقافة المحلية، والكثافة السكانية في بقعة جغرافية صغيرة، والإدراك الجمعي العميق لحجم الظلم الواقع عليهم، نساء ورجالًا، الأمر الذي خلق شبكات تكافل اجتماعي ودعم متبادل بشكل عضوي وقاعدي. غالبًا ما يقع الدور الرعائي على عاتق نساء وفتيات الأسرة النواة في ظل المنظومة الأبوية، والذي يشمل تحضير الطعام والتنظيف والعناية بالأطفال والمرضى وكبار السن وذوي وذوات الإعاقة. وسواء اختارت الغزاويات القيام بهذا الدور بأنفسهن أم أجبرن عليه بفعل التقسيم النمطي للأدوار الاجتماعية أو بسبب موت أو أسر أو تشرد أو إصابة الشريك أو عدم وجود شخص آخر في العائلة قادر على القيام به، فإن عبئه ازداد وطأة اليوم بفعل العدوان والتشرد القسري والإبادة الجماعية التي قطّعت الصلات العائلية الممتدة وتسببت بتآكل شبكات الدعم المجتمعي.
فمثلًا، أدى القصف الوحشي للسكان والأعيان المدنية وشح الموارد إلى العودة للأساليب البدائية في تحضير الطعام، أو اختراع وسائل جديدة مثل استعمال “التنكة” كفرن، أو تحضير خبز الطابون/التنور دون الطابون، وهي طرق تستهلك جهدًا ووقتًا أطول مقارنة مع شراء الخبز من الفرن في الحالة العادية، كما أن الكثير من النساء خلال العدوان يخبزن ويطبخن لعائلاتهن ولعوائل أخرى مهجرة طواعية. انعكست ندرة توفر الطعام على الأمن الغذائي لسكان القطاع عمومًا، وعلى الأمهات خصوصًا إما بسبب عدم تعافي أجسادهن من استنزاف الحمل للعناصر الغذائية المتوفرة في الجسد، وإما لأنهن غالبًا ما يتركن حصتهن من الطعام لأولادهن وبناتهن، وهو الأمر الذي يؤثر على إفراز الحليب عند المرضعات منهن فيلجأن إلى الحليب المجفف إن توفر، ويضطررن إلى خلطه بأي مياه متاحة. وفي حال كانت المياه غير صالحة للشرب، فإنها تسبب إصابة الكثير من الرضع والأطفال بالأمراض والأوبئة ما يزيد من أعباء الرعاية والقهر النفسي والإنهاك الجسدي للناجيات من قصف الاحتلال والأسر.