محمد فنصة | يامن مغربي | براءة خطاب
بعد 55 عامًا على إنشائها، أثار مرسوم إنهاء العمل بمحاكم الميدان العسكرية المبهم عديدًا من التساؤلات حول مصير ملفات القضايا التي بُت بها من جهة، وسبب اختيار هذا التوقيت من جهة أخرى، بينما قلل خبراء وحقوقيون من أثر هذا المرسوم على تحسن حالة حقوق الإنسان في سوريا.
القانون الذي أرسى إنشاء هذه المحاكم، وأخفى عبرها مصير عدد لا يحصى من السوريين، نتيجة تكتم حكومة النظام على مثل هذه المعلومات وحظر نشرها، جاء بعد عام واحد من “نكسة” حزيران عام 1967، لمحاكمة العسكريين الفارين من الخدمة أو الذين التحقوا بصفوف العدو الإسرائيلي، بيد أن التعديل الذي أضيف إلى القانون في عهد رئيس النظام السابق، حافظ الأسد، عام 1980، سمح لهذه المحاكم بإضافة المدنيين إلى قائمة ضحاياها.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف، سبب اختيار حكومة النظام هذا التوقيت لإصدار المرسوم في ظل تفاعل قضية المعتقلين والمختفين قسرًا على المستوى الدولي، والظروف السياسية المرتبطة بالملف السوري داخل وخارج سوريا، وتحاول أن تجيب عبر قانونيين وحقوقيين عن التساؤلات حول أثر إنهاء المحاكم الميدانية على أرشيف القضايا المحكومة، ومدى علاقتها بحالات الاختفاء القسري في سوريا.
نداء المحكمة أم نداء الإعدام
“لم أكن أملك أملًا، عندما نادوا باسمي في الساعة السادسة صباحًا، كنت أشعر أنني ذاهب إلى الإعدام، أكاد لا أصدق أنني حي حتى الآن”، بهذه الكلمات عبّر أسامة عن الأحاسيس التي غمرته حين نادى السجّان باسمه لتحويله إلى محكمة الميدان العسكرية دون علمه.
حوكم أسامة الزهراوي (42 عامًا) أمام المحكمة الميدانية عام 2012، على الرغم من أنه لم يكن عسكريًا، ووُجّهت إليه عدة تهم دون الاستناد إلى أي دليل ملموس، وفق ما رواه لعنب بلدي.
وصف بحث لمركز “حرمون” للدراسات المعاصرة، عام 2021، محاكم الميدان العسكرية في سوريا بأنها “ليس لها أي شرعية قانونية ولا دستورية ولا دولية”، واستغل رئيس النظام السوري السابق، حافظ الأسد، المرسوم وعدّله عام 1980، لقوننة الإعدامات الميدانية التي استهدفت معارضي حكمه حينها بعد أحداث مدينة حماة، وتجريد القضاء من صلاحياته.
وتضمن مرسوم التعديل إضافة عبارة تفرض تفعيل المحاكم “عند حدوث اضطرابات داخلية”، على توصيف “العمليات الحربية”، التي كانت تقتصر على الأعمال التي ينفذها الجيش أو بعض وحداته في الحرب أو عند وقوع صدام مسلح مع العدو، لتطال المدنيين.
ومنذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، عادت هذه المحاكم إلى الواجهة، وحُوّل عديد من المعارضين للنظام إليها بتهم أغلبها تتعلق بـ”الإرهاب”، وفق البحث.
تبدأ رحلة التعذيب بالنسبة للمعتقل منذ لحظة توقيفه، إذ يتعرض للضرب المبرح منذ لحظة اعتقاله، ويستمر ذلك خلال رحلة الطريق إلى الفرع الأمني، إذ تكون بانتظاره “حفلة استقبال” من الضرب والشتائم من جميع العناصر الموجودين، وفق أسامة.
ولا تختلف ملامح رحلة المحكمة الميدانية كثيرًا عن رحلة التعذيب في أثناء الاعتقال، إذ يتعرض المعتقل خلال اقتياده إلى المحكمة الميدانية لشتى أنواع الضرب والإذلال.
روى أسامة تفاصيل رحلته المبهمة إلى المحكمة الميدانية قائلًا، “نادوا بأسمائنا في الساعة السادسة صباحًا، ثم قيّدوا يديّ خلف ظهري، وعصبوا عينيّ بقماشة، لم نكن نعلم إلى أين يتجهون بنا، كنا نشعر أننا ذاهبون إلى الإعدام لضيق الأمل، ولم يراودنا خيار سوى الموت”.
وفي مكان انعقاد المحكمة، ينادى على كل شخص باسمه ليدخل بمفرده مع أحد العساكر، بحسب أسامة الذي استرجع هذه اللحظات قائلًا، “ما أزال أذكر ذلك المشهد في أثناء دخولي إلى المحكمة، حيث طلب القاضي من المرافق فك القماش عن عيني، وكان أول من رأيت أمامي اللواء محمد كنجو، وبجانبه النائب العام”.
وبدأ النائب العام بتوجيه بعض التهم للشاب، تمحورت حول دوره في “تنسيقية القابون”، وتسببه بمقتل عناصر من النظام، وغيرها من التهم التي أنكرها أسامة، مضيفًا أنه اعترف بجميع ما قاله تحت الضغط والتعذيب.
“محاكمتي لم تتجاوز أربع دقائق، وكان معي عدة أشخاص، أذاعوا أسماءنا بالتتالي، وأخذونا، دون محامٍ أو حتى دون أن نعلم الحكم”، أضاف أسامة.
لم يصدر الحكم مباشرة، ومكث أسامة بالسجن لمدة ستة أشهر، بعدها نُقل إلى سجن “عدرا” (سجن دمشق المركزي)، وبقي نحو سنتين وسبعة أشهر، ليصدر الحكم بالسجن سبع سنوات، مع تجريده من الحقوق المدنية والعسكرية.
محاكمة صورية
“لم تستغرق المحاكمة مدة ثلاث دقائق، خرجت منها بالضرب دون معرفة مصيري، حتى قبل الإفراج عني من السجن بشهر، مع تجريدي من جميع حقوقي المدنية والعسكرية، والحجز على أملاكي”، بهذه الكلمات اختصر “محمد” مجريات المحكمة الميدانية وما نتج عنها.
“محمد”، اسم مستعار لشاب مدني رفض نشر اسمه الحقيقي لأسباب أمنية، خضع لمحاكمة ميدانية بعد أن ألقي القبض عليه من قبل فرع “المخابرات الجوية” ومكوثه في سجن “صيدنايا” سيئ السمعة لمدة ستة أشهر قبل المحاكمة.
وواجه “محمد” في المحاكمة، بحسب حديثه لعنب بلدي، تهمًا بالتحريض، وتنفيذ عمليات إرهابية، لكن الشاب حاول أن يشرح للقاضي أن هذه التهم انتزعت تحت التعذيب، وحاول أن يخلع قميصه ليريه آثار تعذيب، لكنه قوبل بالضرب من العنصر المرافق، الذي أخرجه فورًا، حسب رواية الشاب لعنب بلدي.
وجرى تحويل 70% من المعتقلين في سجن “صيدنايا” وحده بعد عام 2011 إلى محاكم الميدان العسكرية، التي حكمت على معظمهم بالإعدام، بحسب مدير “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا“، دياب سرية، وتدار من قبل عسكريين ليست لديهم شهادة حقوق.
وفي 23 من كانون الأول 2018، نشرت صحيفة “واشنطن بوست“ الأمريكية تقريرًا قالت فيه، إن أعداد المعتقلين في سجن “صيدنايا” بانخفاض “متسارع جدًا”، بسبب عمليات الإعدام بعد المحاكمات الميدانية داخل السجن، واعتمدت الصحيفة على صور من الأقمار الصناعية، تظهر وجود عشرات الأجسام المظللة ليتبين بعد التحليل أنها جثث لمعتقلين أُعدموا، بالإضافة إلى صور التُقطت بالقرب من دمشق، تظهر ازدياد أعداد المقابر وعمليات الحفر.
وفي عام 2017، نشرت منظمة العفو الدولية تقريرًا عن عمليات الإعدام الميدانية في سوريا، ونقلت عن حارس سابق في سجن “صيدنايا”، أن أكثر من 13 ألف معتقل أُعدموا شنقًا في السجن بالفترة ما بين 2011 و2015، بعد “محكمة ميدانية سريعة”.
واستخدم النظام هذه المحاكم “كأداة قتل وإخفاء ضد الناشطين والمعارضين”، وفق وصف تقرير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” الصادر في 12 من أيلول الحالي، الذي وثق إصدار المحاكم الميدانية 14843 حكم إعدام، نُفذ منها ما لا يقل عن 7872 حكمًا، ومن بين المحكومين 114 طفلًا و26 سيدة.
لعبة النظام.. استغلال سياسي لكل خطوة
إصدار الأسد المرسوم الذي ألغى المحاكم الميدانية، جاء بالتزامن مع تفاعل للملف السوري على الصعيدين الداخلي والخارجي.
داخليًا، تستمر احتجاجات مدينة السويداء، جنوبي سوريا، المطالبة برحيل الأسد وإسقاط النظام، وتنفيذ القرار الأممي “2254”، القاضي بتشكيل هيئة حكم انتقالية وانتخابات بإشراف الأمم المتحدة، وتبرز حالة احتقان في مناطق سيطرة النظام الأخرى جرّاء الأزمة الاقتصادية وجمود الملف السياسي.
خارجيًا، يرتبط المرسوم، وفق محللين، بالمبادرة العربية أو ما عُرف بـ”المبادرة الأردنية” ومبدأ “خطوة مقابل خطوة”، وبالتالي يمكن قراءة المرسوم باعتباره خطوة ولو “شكلية” ينفذها النظام السوري في هذا الإطار، لإرسال رسالة إلى الدول العربية التي أعادته لشغل مقعد سوريا في الجامعة العربية، وللدول الغربية بإمكانية تغيير سلوكه، خاصة مع تزايد الملاحقات من دول غربية للضالعين بتعذيب السوريين وتنفيذ الانتهاكات بحقهم في المعتقلات، وتشكيل الأمم المتحدة مؤسسة خاصة للبحث عن المفقودين في سوريا.
رسالة النظام إلى المجتمع الدولي والعرب
بعد كارثة الزلزال التي ضربت جنوبي تركيا وشمالي سوريا في شباط الماضي، ازدادت تحركات دول عربية تجاه النظام السوري، وقدموا له “المبادرة العربية” ضمن مبدأ “خطوة بخطوة”.
تطرقت المبادرة إلى ملف المعتقلين السياسيين، وتناولت آلية لمعالجة الملف على المدى القريب من خلال تقديم النظام معلومات تفصيلية لمكاتب الأمم المتحدة عن المستفيدين من العفو الرئاسي الذي أصدره (نيسان 2022)، إلى جانب الإفراج عن المعتقلين بشكل تعسفي، والاتفاق على إطلاق سراح المعتقلين بشكل تدريجي، والتعاون مع “الصليب الأحمر” لتحديد أماكن ومصير المفقودين والمخطوفين.
وتحدثت المرحلة الثالثة من المبادرة عن “خطوات متوقعة من دمشق”، تشمل إصلاحات لضمان حكومة جيدة ومنع الاضطهاد.
وفق الباحث في مركز “عمران” للدراسات الاستراتيجية منير فقير، فإن ارتباط المرسوم بالمبادرة العربية وتحركات النظام في هذا الملف، أكبر من ارتباطه باحتجاجات السويداء، ويحاول إيهام الدول العربية بأنه يخلق البيئة القانونية والحقوقية المناسبة لعودة اللاجئين دون محاسبة والتعبير عن رأيهم.
وبناء على هذا الأمر، يقدم النظام “تنازلًا” شكليًا كخطوة، ينتظر في مقابلها خطوة من الدول العربية، وفق مبدأ المبادرة، لذا من الضروري، بحسب الباحث، أن تفنّد وسائل الإعلام والمراكز البحثية المرسوم وأسباب صدوره، على اعتبار أن الدول والحكومات تأخذ هذه الأمور بشكلياتها لا بمضمونها الحقيقي في بعض الأحيان.
المحامي والناشط في حقوق الإنسان محمود حمام، قال لعنب بلدي، إن النظام السوري يحاول عبر المرسوم ابتزاز المجتمع الدولي والقول إنه يحاول تغيير سلوكه والقوانين المحلية، للحصول على مكاسب أكبر في ظل الظروف السياسية والاقتصادية التي يمر بها.
وسيحاول النظام السوري استثمار المرسوم خلال الفترة المقبلة محليًا ودوليًا، ليصوّر الأمر على أنه انتقال إلى مستوى جديد من ناحية تطوير أدوات الحكم والإصلاح السياسي والأمني (شكليًا)، وتسويق الأمر حتى على مستوى ملف “قيصر” بأنه يخفف من حدة الانتهاكات التي يواجهها السوريون، والتي تعد المحاكم الميدانية إحدى أدواتها، بحسب فقير.
المحاكم الميدانية.. “الثقب الأسود” للاختفاء القسري
يعد ملف الاختفاء القسري أحد أهم الملفات في سوريا، ويتصل بآلاف العائلات السورية، مع وجود آلاف المختفين قسرًا لدى مختلف جهات السيطرة على الأرض في سوريا، العدد الأكبر لدى النظام السوري، وفق “الشبكة السورية لحقوق الإنسان“.
وجاء في تقرير “الشبكة” الصادر في 12 من أيلول الحالي، أن محاكم الميدان العسكرية تعد أحد أسوأ أشكال المحاكم الجزائية الاستثنائية التي أُحدثت في تاريخ سوريا لعدة أسباب، منها أنها تعد أحد الأجهزة الرئيسة للنظام السوري والمتسببة بجريمة الاختفاء القسري لديه.
وتوضح الأرقام التي ذكرتها “الشبكة” في تقريرها حجم الدور الذي لعبته هذه المحاكم الميدانية في عملية الإخفاء القسري لآلاف السوريين المجهولي المصير، وبطريقة ممنهجة مستندة إلى قرارات وتوجيهات مدروسة صدرت وفق نظام أمني وعسكري ذي هيكلية تنظيمية مترابطة بدءًا من رئيس الجمهورية.
ووصف مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد لله، لعنب بلدي، المحاكم الميدانية بأنها إحدى أدوات الإخفاء القسري في سوريا، وأضافت الطابع القانوني لعمليات الاعتقال التي نفذتها أجهزة الأمن، مع تعرض المعتقلين لمحاكمات ميدانية سريعة في سجون “تدمر” و”صيدنايا” و”القابون”، ودون وجود محامين أو فرصة للاستئناف، مع غياب أبسط معايير المحاكمات العادلة.
ووصف المحامي والناشط في مجال حقوق الإنسان محمود حمام، لعنب بلدي، هذه المحاكم بأنها “الثقب الأسود” للاختفاء القسري في سوريا.
ويتعرض من يُحاكم من خلالها للاختفاء عن العالم ليصبح مصيره مجهولًا، خاصة أن قرارات هذه المحاكم هي قرارات أمنية تحظر الكشف عن أعداد المحكومين أو مصيرهم، كما تنفذ أحكام الإعدام دون إصدار شهادات وفاة أو إبلاغ ذوي المتوفين، وفق حمام.
ما مصير سجلات المحكومين.. خبراء يجيبون
اكتنف الغموض مصير سجلات وملفات القضايا التي بُت فيها خلال المحاكم الميدانية منذ تشكيلها قبل 55 عامًا، في ظل عدم تحديد مرسوم إنهاء المحاكم الصادر مصير هذه الوثائق.
أحد أبرز المخاوف التي يثيرها المرسوم، يتعلق بطمس آلاف الجرائم المرتكبة بحق السوريين، خاصة مع غياب أي ضمانات لعملية نقل أرشيف هذه المحاكم إلى محاكم مدنية أو حتى عسكرية، وبالتالي عدم ضمان محاسبة مرتكبي الانتهاكات حول أحكام الإعدام والإخفاء القسري والمحاكمات غير العادلة في سوريا.
مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، أوضح لعنب بلدي أن من الصعب طمس هذه الجرائم المرتكبة، خاصة أن عدد الأشخاص الذين أعدموا بسببها كبير جدًا، كما أن المرسوم لا يعفي رئيس النظام السوري، بشار الأسد، من أي مسؤولية عنها.
كما أن إلغاء المحاكم العسكرية الميدانية لا ينفي المسؤولية الجنائية عما حصل فيها بعد عام 2011، وأحكام الإعدام الصادرة بحق السوريين، وهي أحكام موجزة تعد جرمًا كما التعذيب حتى لو صدرت عن أحكام قضائية، لأن المحكمة غير معترف بها بالأساس.
من جهته، قال المحامي والناشط في مجال حقوق الإنسان محمود حمام، إنه لا يوجد تأثير للمرسوم على إمكانية محاسبة النظام السوري، مع وجود مئات الشهود والوثائق والتوثيق الذي نفذته المنظمات الحقوقية السورية.
ووفق دراسة نشرها مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” في 14 من أيلول الحالي، فإن إلغاء المحكمة يلغي حاجة الأسد إلى التصديق على أحكام الإعدام الصادرة عنها، وبالتالي يمكنه التهرب من مسؤوليته المباشرة عن عمليات الإعدام التي نفذتها المحكمة بعد تفعيلها بشكل كبير منذ عام 2011.
وأحالت جميع الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السوري أغلب الموقوفين لديها إلى محكمة الميدان العسكرية، وتصاعدت الإحالات إليها لاحقًا للتعامل مع كل القضايا المرتبطة بالحراك السلمي والمسلح، وفق الدراسة.
ومن المتوقع أن تبدأ تلك الأجهزة بإحالة الموقوفين لديها إلى محاكم القضاء العسكرية ومحكمة قضايا الإرهاب، أو القضاء المدني، فيما سيبقى تقدير “الجريمة وتوصيفها” يخضع للأجهزة الأمنية، بحسب الدراسة، التي أشارت أيضًا إلى غياب الاستقلالية القضائية، سواء للقضاء العسكري أم المدني.
“المحاكم الميدانية إحدى النقاط السوداء بتاريخ سوريا، وهناك الآلاف من السوريين أعدمتهم المحاكم الميدانية العسكرية”
محمد العبد الله – مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة” |
المحامية السورية والزميلة الباحثة ببرنامج الجرائم الدولية والمحاسبة في “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان” جمانة سيف، قالت لعنب بلدي، إنه نظريًا بعد إلغاء هذا المرسوم وتحويل الاختصاص للقضاء العسكري، يجب أن ينقل إليه كل الأرشيف والقيود والسجلات.
وبالنظر إلى تاريخ النظام السوري الحقوقي “الإجرامي”، شككت سيف بسماح النظام لأهالي الضحايا بالوصول إلى هذه السجلات والاطلاع عليها لمعرفة مصير أحبائهم أو ذويهم الذين تمت محاكمتهم بالمحاكم الميدانية.
وأشارت سيف في حديثها لعنب بلدي، إلى مراسيم العفو التي أصدرها النظام، دون كشف سجلات المعفى عنهم أو التعامل بشفافية مع الأعداد التي أُفرج عنها وفق هذه المراسيم.
فيما يرى المسؤول القانوني في “البرنامج السوري للتطوير القانوني”، المحامي مهند شراباتي، أن تحديد مصير سجلات محكمة الميدان عبر هذا المرسوم يثير “إشكالية كبيرة”.
ورجح شراباتي نية النظام عبر المرسوم إتلاف هذه السجلات، وبالتالي ضياع جميع الأدلة والوثائق عن الأشخاص التي تمت محاكمتهم وإعدامهم من قبل هذه المحكمة.
المكتب القانوني في “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”، قال لعنب بلدي، إن المرسوم يأتي في سياق محاولات النظام لطمس الحقائق وإخفاء مسؤوليته عن الجزء المرتبط بالمحاكم الميدانية من جرائم الاختفاء القسري، والإعدام بإجراءات موجزة.
واستدل المكتب القانوني على هذا الرأي بأن نص المرسوم أحال فقط الدعاوى المنظورة حاليًا وبحالتها الحاضرة أمام المحكمة الميدانية إلى القضاء العسكري، دون بيان مصير المحكومين السابقين أو الإشارة إلى الملفات والأحكام السابقة الصادرة عنها، ما يدل على محاولة التهرب من المسؤولية الجنائية عن طريق إلغاء المحكمة وإتلاف ملفاتها.
وينتظر النظام السوري استحقاقًا دوليًا عبر جلسة استماع في محكمة العدل الدولية بالدعوى المرفوعة ضده بخصوص التعذيب بالسجون، في 10 و11 من تشرين الأول المقبل، بعد أن أُجّلت من 19 من تموز الماضي، وفق قرار المحكمة بناء على طلب من حكومة النظام السوري.
كما تتجه الأنظار إلى الهيئة الدولية التي أنشأتها الأمم المتحدة في حزيران الماضي، لتوضيح مصير المفقودين في سوريا، إذ تطلب من الأمين العام أن يضع اختصاصات المؤسسة المستقلة في غضون 80 يوم عمل من اتخاذ القرار، بدعم من مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وبالتشاور مع جميع الجهات الفاعلة المعنية، بما يشمل مشاركة الضحايا والناجين والأسر مشاركة كاملة ومجدية.
كما تطلب من الأمين العام أن يقدم تقريرًا عن تنفيذ هذا القرار في غضون 100 يوم عمل من اتخاذه، وأن يقدم سنويًا تقريرًا عن أنشطة المؤسسة المستقلة.
ويعد النظام السوري المسؤول الأكبر عن أعداد المفقودين والمختفين قسرًا في سوريا من إجمالي أطراف النزاع، بحسب بيانات “الشبكة السورية”.
ما الاختلاف عن القضاء العسكري
أحال مرسوم إنهاء محاكم الميدان العسكرية جميع القضايا بحالتها الحاضرة إلى محاكم القضاء العسكري لإجراء الملاحقة فيها، والتي بدورها ابتعدت عن اختصاص اسمها وأصبحت تحاكم المدنيين.
وجرى توسيع اختصاصات محكمة القضاء العسكرية، وأُعطيت صلاحية النظر في عديد من الجرائم بموجب قوانين خاصة، شُرعت على مدى عدة سنوات، حتى لو كان مرتكب الجرم مدنيًا ولا يوجد أي عسكري في القضية، وفق ما أوضحه المسؤول القانوني في “البرنامج السوري للتطوير القانوني”، المحامي مهند شراباتي، لعنب بلدي.
المحامية جمانة سيف وصفت محاكم الميدان العسكرية بأنها محاكم “سيئة الصيت جدًا” لكونها سرية ولا تتوفر فيها شروط المحاكمة العادلة ولو بالحد الأدنى، مثل توكيل محامٍ أو الطعن بقراراتها.
بينما القضاء العسكري له جانبان، الأول أنه مختص بكل ما له علاقة بمؤسسة الجيش والعقوبات العسكرية مثل حيازة السلاح وغيرها، و”استثنائي” في ظل حالة الطوارئ، إذ تحال إليه الجرائم الواقعة على السلطة العامة مثل الجرائم الواقعة ضد الموظفين، ومن بينهم القدح والذم لرئيس الجمهورية، أو إتلاف أوراق رسمية، وغيرها، وفق سيف.
ومن المحاكم التي شهدتها المحامية جمانة سيف، محاكمة الكاتب علي العبد الله بالقضاء العسكري عام 2010، بسبب كتابته مقالًا عن الهيمنة والنفوذ الإيراني.
المحامي أحمد صوان، أوضح أن القضاء العسكري مختص بتطبيق قانون العقوبات العسكري، الذي يتضمن أصول المحاكمات أمام هذا القضاء، مشيرًا إلى وجود “حدود معقولة” لحق الدفاع عبر دور المحامي بحضور المحاكمات وتقديم الدفوع والطعن.
أما محاكم الميدان العسكرية فهي تحرم المتهمين من الاستعانة بالمحامي، ولا يمنح المحامون أي حق بالاطلاع على ملفات الدعاوى، كما تستند هذه المحكمة عندما تصدر أحكامها إلى الاعترافات المنتزعة تحت التعذيب، وفق ما قاله صوان لعنب بلدي.
وأشار شراباتي إلى “إشكالية” تتعلق بالنيابة العامة في محكمة الميدان التي تتمتع بصلاحيات واسعة تشمل الصلاحيات الممنوحة للنائب العام وقاضي التحقيق العسكري، والقرارات تصدر عنها قطعية لا تقبل أي طريق من طرق الطعن حسب المادة “4” من المرسوم “109” لعام 1968، وبالتالي يخسر أصحاب القضايا التي ستحال إلى القضاء العسكري حقهم بالطعن بقرارات النيابة.
“استخدم النظام السوري القضاء العسكري لتوجيه التهم لمعارضين سياسيين مدنيين اعتبر أنهم ارتكبوا جرائم بحق أمن الدولة أو السلامة العامة أو النيل من هيبة الدولة أو الشعور القومي أو إثارة النعرات الطائفية وغيرها من التهم”.
جمانة سيف – محامية وزميلة باحثة ببرنامج الجرائم الدولية والمحاسبة في “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان” |
قانونًا.. ما الفرق بين محاكم الميدان العسكرية ومحكمة القضاء العسكري؟
محاكم الميدان العسكرية أُنشئت عام 1968، وهي تختص بالنظر في الجرائم الداخلة في اختصاص المحاكم العسكرية والمحالة إليها بقرار من القائد العام للجيش والقوات المسلحة والمرتكبة زمن الحرب والعمليات الحربية.
تشكل المحكمة بقرار من وزير الدفاع، وتتألف من رئيس وعضوين عسكريين، ولا تقل رتبة الرئيس فيها عن رائد، كما لا تقل رتبة كل من العضوين عن نقيب.
يجوز لمحكمة الميدان ألا تتقيد بالأصول والإجراءات المنصوص عليها في التشريعات النافذة، وتكون أحكامها “قطعية” لا تقبل الطعن، وتخضع فقط للتصديق من قبل رئيس الدولة في حال الحكم بالإعدام، ومن قبل وزير الدفاع في حالة الأحكام الأخرى.
أما محكمة القضاء العسكري فهي محكمة دائمة مركزها دمشق، يحدد تشكيلها واختصاصها قانون العقوبات وأصول المحاكمات العسكري الصادر بالمرسوم رقم “61” لعام 1950.
وتتألف المحكمة العسكرية من ثلاثة قضاة، أحدهم عسكري، وتخضع المحاكم العسكرية لرقابة سلطة تنفيذية تابعة لوزارة الدفاع، ويعيّن القضاة بمرسوم بناء على اقتراح القائد العام للجيش والقوات المسلحة.
ويمكن للمحاكم العسكرية أن تفصل في القضايا التي يكون فيها أحد الأطراف عسكريًا، حتى لو كان الطرف الآخر مدنيًا.
ما اختصاصات محكمة القضاء العسكري؟
● الجرائم المرتكبة في المعسكرات والمؤسسات العسكرية والأماكن التي يشغلها العسكريون لمصلحة الجيش والقوات المسلحة.
● الجرائم التي تُرتكب ضد مصالح الجيش.
● الجرائم المرتكبة من قبل رجال جيوش حليفة تقيم في الأراضي السورية، وجميع الجرائم الماسة بمصالح هذه الجيوش إلا إذا كان بين حكوماتها وبين الحكومة السورية اتفاقات خاصة تخالف هذه الأحكام.
● الجرائم المرتكبة بواسطة الكتابات المطبوعة على اختلاف أنواعها، مثل تحقير العلم أو الجيش أو المس بكرامته أو سمعته.
وبعد توسيع صلاحيات المحكمة وفق قوانين منفصلة ضم أبرزها:
– مخالفة الأوامر الصادرة عن الحاكم العرفي مثل إطلاق العيارات النارية في المناسبات.
– حيازة السلاح الحربي دون ترخيص.
– الجرائم الواقعة على السلطة العامة من المادة “369” حتى “387” عقوبات عام مثل:
– ذم أو قدح رئيس الدولة أو الإدارات العامة والهيئات المنظمة أو الجيش أو موظف بسبب وظيفته.
– انتحال صفة أو وظائف.
– مزاولة مهنة خاضعة لنظام قانون دون حق.
– فك الأختام الموضوعة من السلطة.
– إتلاف الأوراق والوثائق الرسمية.
– الجرائم الواقعة على أمن الدولة والسلامة العامة.
– الصلات غير المشروعة بالعدو.
– النيل من هيبة الدولة ومن الشعور القومي.
– الانتساب لجمعية سياسية أو اجتماعية ذات طابع دولي دون إذن الحكومة.
– إثارة النعرات المذهبية والعنصرية والتعدي على الحقوق والواجبات المدنية.
– الانتماء للجمعيات السرية والمظاهرات وتجمعات الشغب.
– تحقير دولة أجنبية أو جيشها أو علمها أو شعارها الوطني علانية.
– الاعتداء على سلامة الطرق والمواصلات.
“أداة قمعية” إضافية قائمة
يعد مطلب إلغاء المحكمة الميدانية السيئة الصيت مطلبًا قديمًا للمحامين مضى عليه 45 سنة، إذ عقد المؤتمر العام لنقابة المحامين مؤتمرًا في عام 1978، لبحث وضع الحريات وسيادة القانون والجهاز القضائي، وخلص لعدة توصيات، منها إلغاء المحاكم الميدانية، على الرغم من أنها حينها لم تحاكم المدنيين وفق التعديل الذي طرأ بعدها بعامين.
ويبقى بعد إلغاء محكمة الميدان إلغاء محكمة “الإرهاب” وتمكين القضاء، وتوفير مناخ الحرية وسيادة القانون، وإطلاق سراح الموقوفين دون مذكرات قضائية، بحسب رأي المحامي المقيم في سوريا عارف الشعال.
ومع انطلاق الثورة السورية في 2011 والمظاهرات التي نادت بإسقاط النظام، حاول الأسد إصدار قوانين جديدة للالتفاف على مطالب الشارع، فألغى قانون الطوارئ والمادة الثامنة من الدستور التي تنص على أن حزب “البعث” هو قائد الدولة والمجتمع، وكذلك ألغى محكمة “أمن الدولة”، لكنه أنشأ بديلًا عنها، محكمة “الإرهاب”.
أُسست محكمة “الإرهاب” في تموز 2012، وتصدر قراراتها بموجب قانون “مكافحة الإرهاب” الصادر في الشهر ذاته.
ولا يتوقع المحامي أحمد صوان من النظام أن يستجيب للمطالبات بإلغاء هذه المحكمة، مفسرًا تمسكه بهذه المحكمة بأنها “الأداة القمعية” التي تتيح له انتهاك حقوق المعارضين “لحكمه الاستبدادي”.
ولا تتقيد محكمة “الإرهاب” بأصول المحاكمات في جميع أدوار وإجراءات الملاحقة والمحاكمة، وترتكب عديدًا من الانتهاكات بحق السوريين الذين يُحاكَمون أمامها، منها حرمان المتهمين من حق الدفاع وتوكيل محامٍ، رغم وجود هذا الحق في قانون إحداثها، لكن الوقائع تؤكد حرمان المتهمين من الاستعانة بالمحامي، وفق صوان.
وتستند هذه المحكمة إلى الاعترافات المنتزعة تحت التعذيب أساسًا للحكم على المتهمين، وتعتمد على الضبوط المنظمة من قبل رجال الأمن.
وتحاكم محكمة “الإرهاب” المدنيين والعسكريين والأحداث على حد سواء، وهو ما يعارض قواعد الاختصاص القضائي النوعي، كما أن رئيس الجمهورية وفق قانون المحكمة هو من يعيّن القضاة، في انتهاك لمعايير مبدأ الفصل بين السلطات.
وترى المحامية السورية جمانة سيف، أن إلغاء محكمة “الإرهاب” مرهون بتحقيق انتقال وحكم ديمقراطي في سوريا، مستندة إلى أن النظام قائم على “الترهيب والعنف” بأدوات مثل هذه المحكمة.
ماذا يمكن للمنظمات الحقوقية فعله بعد المرسوم؟
يتصل مرسوم الأسد عمليًا بملفين في غاية الأهمية بالنسبة للسوريين، ملف المعتقلين في سجون النظام السوري، وملف المغيبين قسرًا، وهما ملفان تعمل عليهما المنظمات الحقوقية السورية والدولية.
ويمكن استغلال المرسوم الأخير بإلغاء المحاكم الميدانية من قبل هذه المنظمات والضغط على النظام السوري.
وقال مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، إن أول ما تستطيع المنظمات الحقوقية فعله خلال المرحلة المقبلة، هو متابعة التوثيق ومراقبة المحكمة العسكرية والقضاء العسكري، للتأكد من كيفية سير الدعاوى بعد إحالتها من المحكمة الميدانية الملغاة إلى محاكم أخرى.
ومن الضروري معرفة حالة المعتقلين التي ستنقل ملفاتهم إلى محاكم أخرى، وبالتالي سيكون متاحًا لأهالي المعتقلين الحصول على وثيقة الحكم من المحكمة، ومعرفة مصير آلاف المفقودين، وبالتالي فإن مراقبة المنظمات الحقوقية لما سيحصل في القضاء العسكري سيكون عاملًا أساسيًا في الفترة المقبلة، بحسب رأيه.
المكتب القانوني في “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”، يعتقد أن على منظمات المجتمع المدني التأكيد دائمًا والمطالبة بالكشف عن سجلات المحكمة وإتاحتها للعامة، لتمكين السوريين من ممارسة حقهم في معرفة الحقيقة، وتمكين الأهالي من معرفة مصير أبنائهم.
وطالب أيضًا بالتأكيد على المسؤولية الجنائية لقضاة المحكمة والقائد العام للجيش والقوات المسلحة ووزراء الدفاع، واعتبارهم مشتبهًا بهم في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تجب محاكمتهم.