جريدة عنب بلدي – العدد 49 – الأحد – 27-1-2013
داريا النموذج: لم تكن صدفة تصدّرُ داريا للمشهد في الثورة السورية بتحضر أبنائها، وبطولة شهيدها غياث مطر ورفيق دربه المعتقل يحيى الشربجي، ووعيهم للعمل السلمي وأهميته. لابد من تفسير ما لهذه الظاهرة… لماذا شكلت داريا نموذجًا فريدًا للثورة السورية؟ ولماذا لم يظهر نموذج آخر كداريّا خاصة في المدن الكبرى والتي تحوي خزانًا من المفكرين والمثقفين الواعين؟ لقد بدت دلالات هذا الوعي واضحة منذ العام 2003م حين قام شباب داريا بمجموعة مبادرات للنظافة ومكافحة الرشوة والتدخين وغيرها، وليتم على إثرها اعتقال هؤلاء الشباب.
لقد ظهرت بصمة الوعي واضحة بين شباب داريا في كل منعطف للثورة، فحين كان عنوان المرحلة السلمية، تميزت سلميًا، وحين كان التنظيم والتوحد والمجالس المحلية عنوان المرحلة، كان المجلس المحلي لداريا من أوائل المجالس المنظمة. وحين كان الصوت الأعلى للسلاح والكتائب المسلحة، تميزت كتائب داريا بقوة تنظيمها ووعيها العالي وصمودها الأسطوري أمام هجمات النظام المتكررة. وحين تعرضت للمجزرة الأكثر دموية في الثورة السورية، كان ردها أبلغ رد، بدلًا من البكاء والعويل واستجداء العرب والغرب، تمت المطالبة بتحويل الملف لمحكمة الجنايات الدولية. لقد كانت داريا بدون شك من أبرز النماذج المتحضرة التي قدمتها الثورة السورية.
لماذا داريا؟ إذا أردنا أن نكرر نموذج داريا في جميع أنحاء سوريا، يجب علينا أن نفهم ميزة هذا النموذج ونحلله لنصل إلى الخلطة السحرية التي يمكن من خلالها تعميم النموذج وتثبيته. تجمع داريا بين خاصيتين اثنتين لم تتوفرا بشكل بارز بمدينة أو منطقة سورية أخرى، وهما: 1- تنظيم الريف 2- وعي المدينة. فمن المعروف عن المجتمعات الريفية قوة الروابط الاجتماعية فيها، وبالتالي سهولة تنظيمها وصعوبة اختراقها من الخارج، مما كان عاملًا هامًا في قوة الانتظام والعمل الجماعي وتحقيق الأثر، بخلاف المدينة التي تضعف فيها هذه الروابط بحكم اتساعها وكثرة الهجرات منها وإليها. بينما يتميز أبناؤها بتعليمهم ووعيهم وثقافتهم. إن الانتظام والعمل الجماعي وحده دون وجود فكر ووعي يوجهه لا يثمر شيئًا، كما أن الفكر والوعي وحده دون تحوله إلى واقع من خلال عمل جماعي ومؤسساتي يبقى حبرًا على ورق. إن سورية تزخر بالعقول والمفكرين والمثقفين، ولكن هذا الوعي وهذه الأفكار لم تجد طريقها إلى الأرض، إما لتهجير هذه العقول خارج سورية، وإما لقوة القبضة الأمنية في المدن والحواضر، وإطباقها سريعًا على أي بذرة ناشئة لقيادة واعية أو نواة لعمل منظم واع.
لقد استطاعت داريا بشكل ظاهر ودون منازع أن تجمع بين هذين الأمرين الأساسية لنجاح أي عمل وإثماره، فهي بحكم موقعها مدينة ريفية، الروابط الاجتماعية فيها قوية والقبضة الأمنية أخف من المدن، ومن جهة أخرى كان أهلها على قدر عال من التعليم والثقافة، كما هاجر إليها عدد كبير من الدمشقيين فجمعت بين وعي المدينة وتنظيم الريف.
هل يتكرر النموذج؟ إن تكرار هذا النموذج وتثبيته ممكن بأمرين اثنين، بعمل أهل المدن على تنظيم أنفسهم وتقوية روابطهم الاجتماعية وتواصلهم مع جيرانهم وأحيائهم (وقد بدأ هذا الإدراك بالانتشار بسبب تضرر الجميع وإدراكهم أن قوتهم تكون بوحدتهم وتنظيم صفوفهم)، والأمر الثاني هو نشر الوعي بين أبناء الأرياف والبوادي لتتحول إلى تنظيمات اجتماعية واعية ومؤثرة، وبذلك تكتمل المعادلة ويعمم نموذج داريا على سورية كلها.
المعادلة الذهبية: يمكن التعبير عن هذه المعادلة الذهبية بعبارة أخرى، وهي الصلة والعلاقة بين الفكر والقيادة، والزمن الذي يظهر فيه النموذج ويؤثر عمليًا على الأرض هو الزمن الفاصل بين وصول الفكرة للقائد وتحولها لواقع على الأرض. إن العلاقة بين الفكر (الوعي) والقيادة (التنظيم)، المتمثلة في معادلتنا هذه بين (المدينة) و (الريف) هي المعادلة الذهبية. إن تكوّن القيادة والتي تعني وجود أتباع تتبع هذه القيادة وتنتظم بأوامرها لتوجهها لوجهة معينة، لا تعني النجاح في أي عمل تقوم به، فقد تكون وبالًا عليها وعلى أتباعها، إن لم تكن مدعومة بفكر ومفكرين يوجهون البوصلة ويوعّون القيادة والأتباع بالطريق الصحيح والوسيلة الصحيحة للوصول للهدف المنشود وجني الثمار المرجوة.
إن صعود نجم غياث مطر ويحيى الشربجي وارتباط اسم داريا بهما لم يكن عبثًا، فقد جسدا ولو بشكل مصغر هذه العلاقة وهذا الرابط بين القائد والمفكر. من واجبنا ألا ننسى تضحيات هؤلاء الرواد، والأهم من ذلك الأفكار والقيم النبيلة التي ضحوا واستشهدوا من أجلها وأن نبعثها من جديد واقعًا في حياتنا.