عنب بلدي – حسن إبراهيم
“لا شغلها دائم ولا فيها راتب منيح”، بهذه الكلمات اختصر وائل (26 عامًا) من مدينة داريا بريف دمشق، أسباب عزوفه عن مهنة نجارة الموبيليا في تركيا.
ترك الشاب، الذي يقيم في مدينة بورصة التركية، العمل في المهنة التي يزاولها منذ صغره، واشتهرت بها مدينته، لعدم استمراريتها على مدار العام، وقلة مردودها المادي، متجهًا إلى تنجيد المفروشات، على اعتبارها مهنة لا تنقطع، ودخلها الشهري مرتفع، قياسًا بدخله في نجارة الموبيليا.
وتحظى مهنة النجارة بانتشار واسع في داريا، وصاحبت أهلها الذين هُجّروا من مدينتهم على مدار السنوات العشر الماضية إلى كل مكان ذهبوا إليه، إذ تعتبر من المهن الموروثة لسكانها، ومصدر دخل للعديد من عائلاتها.
المردود مقابل مهن أخرى
انتشار مهنة النجارة في بورصة التركية لا يعني أنها أفضل المهن من حيث المردود المادي، بحسب الشاب، الذي أوضح لعنب بلدي أن رواجها في المدينة يعود لكثرة الأشجار وأنواع الأخشاب المختلفة.
ومع قدوم فصل الشتاء، ينخفض الطلب ويفتر سوق العمل في النجارة، ويفقد العديد من عاملي المهنة عملهم، بحسب الشاب، مشيرًا إلى معرفته بالعديد من الأشخاص الذين يتقنون ويحترفون المهنة، لكنهم لا يعملون بها، ويتجهون إلى مهن أخرى كالحدادة والتنجيد وغيرهما.
لا تخلو المهنة التي تحتاج إلى القدرة على الابتكار والإبداع واحترافية التصميم من الأخطار، فاستخدام الأدوات الحادة فيها يجعل عمالها معرضين للخطورة، وقلما تجد شابًا يعمل بها دون أن يكون قد تعرّض لإصابات جسدية خلال عمله.
إسماعيل (29 عامًا) شاب آخر من أبناء مدينة داريا، لا يزال يعمل بشكل متقطع بمهنة النجارة وتركيب الأبواب مع رفاقه وأصحاب الورشات المنتشرة في مدينة اسطنبول، رغم لجوء الشاب للعمل بخدمة توصيل الطلبات (دليفري) كمهنة أساسية ومصدر دخل ثابت له.
أوضح الشاب لعنب بلدي، أن المردود المادي لمهنة النجارة جيد لأصحاب الورشات، لكنه غير مجزٍ للعمال، فالمهنة تحتاج إلى رأس مال كبير، مشيرًا إلى أنه ترك العمل فيها لغلاء معداتها ومتطلباتها، كوجود سيارات لنقل العمال والأخشاب عندما تنجز بعض المشاريع في المجمعات السكنية.
ومنذ خروجه من مدينة داريا عام 2016، دخل إسماعيل إلى تركيا، وعمل في ورشة نجارة بمنطقة أسنيورت في اسطنبول، لكنه فوجئ بالجهد والضغط الملقى على العامل، فمهنة الإبداع، كما وصفها، لا يجب أن تحوّل الشخص إلى “عتّال”.
يفرض صاحب الورشة التي عمل بها إسماعيل على العمال تحميل ونقل مئات الأبواب والنوافذ وغيرها إلى مجمعات سكنية، دون الاستعانة بعمال نقل متخصصين، الأمر الذي يرهق العامل، ويبعده عن الحرفية والإبداع.
أخطار المهنة الجسدية تركت أثرها في جسد إسماعيل، إذ فقد إحدى أصابعه خلال قص ونشر الأخشاب، بالإضافة إلى إصابة أخرى أفقدته جزءًا من أصابع يده الثانية.
يزور الشاب القاطن في منطقة الفاتح، وسط اسطنبول، رفاقه في المهنة من مدينة داريا، مشيرًا إلى توجّه معظمهم لمهن أخرى كالخياطة وتمديد شبكات المياه وخدمة توصيل الطلبات وغيرها.
حاضرة رغم الركود
عزوف بعض المهرة عن نجارة الموبيليا لا يعني أن المهنة اندثرت، إذ تنتشر ورشات النجارة في العديد من الولايات التركية، ومنها ما هو متخصص بإنتاج معيّن، كتجهيزات غرف الزفاف أو غرف المطابخ وغيرها.
“رائحة الخشب الخام، الحفر عليه، تطويعه وتحويله إلى قطع ومصنوعات مختلفة”، مهنة يحبها علاء (31 عامًا)، وهو صاحب ورشة نجارة موبيليا في منطقة أسنيورت، ويصر على العمل بها رغم الصعوبات.
أوضح علاء لعنب بلدي، أنه واجه العديد من الصعوبات في بداية عمله بالمهنة، لكنه مستمر بها إلى جانب شريكه مهند (32 عامًا).
لم يكن فتح الورشة أمرًا سهلًا، فعدم وجود شبكة من العملاء والزبائن، وغلاء وارتفاع أسعار المعدّات المطلوبة، كانت أبرز العقبات التي اعترضت بداية عمل الشابين المنحدرين من داريا.
استأجر علاء محلًا مع أدوات المهنة، ما سهّل عليه عناء البحث عن أدوات جديدة وخفّف عنه التكاليف، بالإضافة إلى امتلاكه سيارة تخدم مهنته وتخفف عنه أجور النقل والمواصلات، وتعطيه خيار الموافقة على عروض عمل في حال كان مكان العمل بعيدًا.
لازم الشابان الصبر والانتظار بداية عملهما، ومع مرور الوقت استطاعا إعطاء صورة للزبائن ومتعهدي المجمعات عن عملهما، وسعيهما لترك بصمة إبداع، مستفيدين من الخبرة المتراكمة.
وتشهد السوق، بحسب علاء، حالة من الفتور والركود أحيانًا، لكن العمل في الورشة لا ينقطع، كون الشابين يتقنان العمل في جميع مستلزمات الأثاث المتعلقة بالأخشاب، من غرف نوم وموديلات أبواب ومكاتب ومطابخ وغيرها.
وتنشط في تركيا العديد من الورشات والمهن والشركات التي نقلت ثقافة الشعب السوري وموروثه إلى الشارع التركي، ووضعت بصمتها في العديد من القطاعات.
موبيليا داريا اليوم
تاركين خلفهم ورشات ومستودعات خشب مدمرة ومحروقة، نقل نجارو داريا مهنتهم إلى مدن ودول النزوح منذ تهجيرهم، أواخر العام 2012، وتسليم المدينة نهائيًا للنظام السوري بعد أن توصلت لجنة ممثلة عن فصائل وفعاليات المدينة معه إلى اتفاق يقضي بإفراغ المدينة في آب 2016.
وانخفضت أعداد الورشات والعمال وصالات البيع في المدينة التي شهدت سنوات من الحصار والقصف، بعد أن كانت بعض الورشات تصدّر منتجاتها إلى المحافظات السورية ومنطقة الجزيرة.
في حين تروّج وسائل إعلام النظام السوري لانتعاش في الصناعات الحرفية بمناطق سيطرة النظام، ومنها مدينة داريا، وقالت جريدة “البعث” الحكومية، في آذار الماضي، إن الصناعات الحرفية تشهد عودة متسارعة في ريف دمشق وخصوصًا مدينة داريا.
وذكرت الجريدة نقلًا عن رئيس المجلس المحلي، مروان عبيد، أن عدد الورشات العاملة في المدينة وصل إلى 100 ورشة حدادة، و100 ورشة نجارة وألمنيوم، و70 محلًا.
وكانت داريا تضم سوقًا خاصة بالموبيليا وأكثر من2500 ورشة لتصنيع المفروشات، وفق إحصائية نشرتها صحيفة “البعث” عام 2005 على لسان رئيس بلدية داريا السابق، محمد مظهر شربجي.
وانتشرت الورشات في الحارة القبلية (جنوبي داريا) وشارع “الثورة” الذي يصل بين قسمي المدينة الجنوبي والشمالي وتفرعاته، ويعد سوق الموبيليا الأكبر والأشهر في المدينة.
وبحسب شهادات سابقة لتجار تواصلت معهم عنب بلدي، زاد عدد الورشات في سنوات ما قبل 2011، ولا سيما في مناطق المخالفات على أطراف المدينة، ويقدّر بعض تجار لوازم النجارين في داريا بأن العاملين بحرفة النجارة في المدينة زاد عددهم على عشرة آلاف عامل.