خطيب بدلة
أخبرنا بعض الأصدقاء الذين عاشوا في الرقة، أيام “داعش”، أن جماعة الحسبة كانوا يفرضون على الناس التوقف عن البيع والشراء، بمجرد أن يسمعوا صوت الأذان، والتوجه إلى أقرب جامع. ولا يوجد، بالطبع، أي داعٍ لإقفال الدكاكين، وتغطية البسطات، لأن التوقف عن البيع إجباري، فلو بقي بعض الباعة طليقين، لكان من حق الآخرين أن يخافوا على بضائعهم وأرزاقهم من السرقات.
تذكرتُ، وأنا أسمع هذا الخبر، أيام المسلسلات التلفزيونية التي تتناول العصور القديمة، حيث يقوم مهندس الديكور ببناء دكاكين متلاصقة في استوديو التصوير، يجلس فيه الباعة والعمال، ويعبر أمامهم الزبائن، وأما الفقراء الذين لا يوجد لديهم رأسمال فيجلسون في زوايا السوق، ويعرضون بضاعتهم البسيطة، ونسمع أصواتهم على هيئة لغط، تعلو عليه صيحةُ أبي أحمد: بيضة ورغيف.
لا شك أن العقل “الداعشي” متوقف عند هذا النوع من البيع والشراء، لم يخطر في بالهم قط أن معظم عمليات البيع والشراء تجري اليوم عبر الإنترنت، أو كما يقولون “أونلاين”، والبائع لم يعد لديه دكان تُعَلَّق فوقها آرمة مضاءة بالنيونات، بل يكفي أن تكون لديه مستودعات بعيدة عن مركز المدينة، ولا داعي، بالطبع، لعرض البضائع، وتستيفها، وتوجيهها، ووضع حبات جميلة على وجه السحارة، وإنما يعرض بضاعته على الإنترنت، كل قطعة وثمنها بجانبها، إضافة إلى نسبة الحسومات التشجيعية. وقد يستمر صاحبُ المتجر بالبيع لزبون، أو مجموعة من الزبائن، على مدى سنين طويلة، دون أن تتكحل عيناه برؤية أنوار وجوههم الوضاءة، أو سماع أصواتهم العذبة، وخلال البيع والشراء قد يكون الزلمة جالسًا في مقهى، أو على البار في كاباريه، أو مستلقيًا بالشورت (بالسيقان) على البلاج، يأخذ حمام شمس، ومؤكد أنه لا يعرف شكل المصاري التي سيدفعها له الزبون، لأنها ستذهب، بعد اكتمال الصفقة بواسطة الهاتف المحمول، سكارسا، إلى البنك، ومؤكد أن إخوتنا “الدواعش” لا يعلمون أن ثمة تريليونات من الدولارات واليوروهات والجنيهات الإسترلينية تتحرك عبر بنوك العالم، كل دقيقة، بالطول والعرض والورب، وكلها تسجل في القيود، على نظام “EXEL”، وأن هناك كمبيالات وسفاتج ونقدًا خطيًا، وحتى إذا دخلتَ إلى سوبرماركت واشتريت خضارًا وفواكه وأرزًا وزبدة وحليبًا، لا توجد ضرورة لأن تقرقع بالعملة المعدنية، أو تدفع بالعملة الورقية، ويكفي أن تفتح جوالك وتمرره أمام جهاز الدفع الإلكتروني، وتسمع صوت تك، وإذا بثمن البضاعة يخرج من حسابك ويدخل في حسابهم.
إذا تفكر المواطن “الداعشي” بما عُرف سنة 2008 عالميًا باسم أزمة الرهون العقارية، التي تتلخص في أن السلعة الواحدة، إذا كانت قيمتها مئة ألف دولار، تجد أن الديون والأقساط المترتبة عليها قد تجاوزت المليون دولار، وأن هنالك تجارًا عالميين يجمعون ثروات خيالية من خلال الارتفاع والانخفاض في أسعار منتجات الطاقة، مثلًا، أو المضاربة بالبورصة، فقد ينهبل، ويمشي في الزقاق ويضع على أذنه جهاز راديو كبيرًا، مثل مجنون إدلب الشهير الذي كان يزمُّ عينيه متظاهرًا بأنه يسمع الأخبار ويفهمها، وحينما يسأله أحدُ المارة: أشو فيها هالدنيا يا فلان؟ يقول: خبيصة!