عنب بلدي- خالد الجرعتلي
استمرت المفاوضات في درعا البلد بالتعثر منذ لحظة انطلاقها في حزيران الماضي، عندما فرضت قوات النظام حصارها على المدينة نتيجة عدم انصياع “اللجنة المركزية” الممثلة للأهالي لطلبات النظام.
ومنذ حزيران حتى أيلول ومرورًا بآب، لم تفضِ أي من جولات المفاوضات إلى حلول من الممكن تطبيقها لأكثر من ثلاثة أيام، مع عمليات النظام العسكرية التي استمرت على المدينة بحجة فشل الاتفاقات.
المفاوضات الأخيرة التي أُعلن عن بنودها، في 1 من أيلول الحالي، كحل شامل لأحداث درعا، عادت لتتعثر مجددًا بعد نفي روسي لجميع البنود التي أعلنت عنها “اللجنة المركزية”، ووصف الجانب الروسي المتحدث الرسمي باسم “اللجنة المركزية”، عدنان المسالمة، بأنه “نقل ما أعجبه من المفاوضات”.
وعادت قوات النظام بعدها للمطالبة بتهجير القيادي السابق في قوات المعارضة محمد المسالمة الملقب بـ”الهفو”، مع آخرين من درعا البلد، الأمر الذي رفضه “الهفو”، ما دفع بـ”مركزية درعا” للمطالبة بالتهجير الجماعي من المدينة باتجاه الأردن أو تركيا.
ومع قبول النظام وروسيا بعمليات التهجير الجماعي من المدينة باتجاه إحدى الدولتين، تريد “اللجنة المركزية” ضمانات بموافقة الأردن أو تركيا على إدخال المهجرين، لكن من غير المعروف حتى الآن موقفهما من القضية، أو إن كانت إمكانية دخولهما ممكنة.
إخلاء المنطقة “هدف قديم”
شهد الجنوب السوري تهجيرًا جماعيًا عام 2018، كان الأكبر منذ بداية سلسلة “التسويات” في المنطقة، إلا أن عمليات التهجير استمرت خلال السنوات الثلاث الأخيرة، لكنها اقتصرت على تهجير أفراد، وكان آخرها في 27 من آب الماضي.
ووصلت حينها الدفعة الثانية من مهجري محافظة درعا جنوبي سوريا إلى ريف حلب الخاضع لسيطرة المعارضة شمالي سوريا، وذلك بعد يومين من وصول الدفعة الأولى.
ويعتقد المحلل والباحث في مركز “جسور للدراسات” وائل علوان، أن إخلاء الجنوب السوري من ساكنيه يعتبر “هدفًا قديمًا”، وهو ما تسعى إليه إيران و”حزب الله” اللبناني منذ دخولهما المنطقة.
واعتبر أن حجم التكاليف العسكرية الروسية والإيرانية في سوريا منذ دخولهما العسكري في سوريا، جعلهما ينظران إلى منطقة الجنوب السوري على أنها رقعة يمكن من خلالها تحقيق مكاسب اقتصادية لتعويض تلك التكاليف العسكرية الكبيرة.
وأشار إلى أن المكاسب التي يمكن تحقيقها في المنطقة لا تقتصر على التجارة السوداء، كتجارة المخدرات التي تبرع بها إيران بشكل كبير، والمرتبطة ببعد جيوسياسي في المنطقة، وإنما تكمن بخطوط الغاز والماء والكهرباء التي يمكن أن تعبر من الأردن عبر الجنوب السوري.
“تسوية 2018” تكتيك مؤقت
توصلت قوات النظام وروسيا، في تموز 2018، إلى اتفاق “تسوية” في درعا عقب حملة عسكرية تلت سيطرة النظام على محيط دمشق وريف حمص الشمالي بـ”تسويات” عملت روسيا على تمريرها.
وتسببت الحملة العسكرية حينها بنزوح 234 ألف شخص من محافظة درعا، وفق إحصائية صادرة عن الأمم المتحدة في 11 من تموز 2018، ووضعت فصائل المعارضة أمام خيار “تسوية” أوضاعها أو التهجير نحو الجيب الأخير للمعارضة في إدلب.
ورغم تطبيق الاتفاق الذي صار يُعرف باسم “تسوية 2018″، لم تلتزم روسيا بالتزاماتها تجاه الاتفاق الذي كان من المفترض أن يجري من خلاله إطلاق سراح المعتقلين من أبناء درعا وسحب قوات النظام إلى ثكناتها العسكرية خارج المنطقة.
اعتبر الباحث السياسي في مركز “جسور للدراسات” وائل علوان، أن التغيير “الديموغرافي” كان “خطًا أحمر” إسرائيليًا عام 2018، لذا حرصت روسيا على عدم التهجير الواسع من المنطقة، واتبعت أسلوب “تخفيف الحمولة الأمنية” في الجنوب الذي تعتبره روسيا ضرورة أمنية في المنطقة، إذ أجّلت عملية التهجير الواسعة التي تسعى خلفها إيران، لتنفيذها كحل مستقبلي للمشكلات الأمنية في المنطقة، وهو ما تشهده المنطقة اليوم.
وأضاف أن المنطقة الجنوبية من سوريا هي منطقة بالغة الأهمية بالنسبة للروس والإيرانيين معًا، وهم متفقون على ذلك وبتنسيق عالٍ بينهما، لتشكيل ضغط إقليمي على دول الخليج والأردن وإسرائيل، بصفتهم حلفاء أمريكا، لصناعة أوراق تفاوض جديدة.
أحداث درعا الأخيرة ستنعكس مستقبلًا على طاولة المفاوضات الدولية، بحسب علوان، وهو الهدف الروسي من الأحداث الأخيرة، إذ تعمل روسيا على تصدير المناطق التي تشهد زعزعة أمنية على أنها صارت تحت السيطرة المطلقة لقوات النظام السوري، الذي عاد كمتحكم في زمام الأمور.
بينما فسّر الباحث التطورات الأخيرة في الجنوب السوري على أنها رسالة روسية للمجتمع الدولي، تحاول فرض تغيير سياسة العالم تجاه النظام السوري الذي “انتصر على معارضيه” وسيطر على زمام الأمور.
وهو سيناريو لن يتحقق، بحسب علوان، بسبب الضغوطات التركية التي توقف تمدد النظام في إدلب، بالإضافة إلى الفوضى المستمرة في مناطق “التسويات”، وعدم قدرة النظام على ضبط الأمن فيها، كون الأسباب التي أشعلت الثورة لا تزال موجودة.
استراتيجية خلط أوراق تتبعها روسيا في الجنوب
يعتقد الباحث والمحلل السياسي وائل علوان، أن سياسة روسيا التي تغيرت إثر قانون “قيصر”، أصبحت تتركز على خلط الأوراق التفاوضية على طاولة المفاوضات الإقليمية أو الدولية، وكل شيء بالنسبة لروسيا قابل لأن يكون ورقة تفاوضية تحاول أن تستفيد منها في ملفات متفرقة ليست فقط في الملف السوري.
وأرجع ذلك إلى وجود مفاوضات مستمرة بين روسيا والغرب والولايات المتحدة وحتى تركيا، واعتبر أن هذه المفاوضات بطبيعة الحال بحاجة إلى أوراق للمفاوضة عليها، وهو ما تبرع فيه روسيا، أي تحويل جميع المواقف إلى أوراق تفاوض، كما جرى مع استثمار روسيا ملف المعابر الإنسانية في سوريا، عندما استثمرت ذلك لفتح الطرق بين مناطق سيطرة المعارضة السورية في الشمال السوري ومناطق سيطرة النظام.
مكاسب في ملفات ثانية
الباحث والمحلل السياسي نصر اليوسف قال لعنب بلدي، إن روسيا تحاول تحقيق مكاسب في أزماتها بأوكرانيا وشبه جزيرة القرم من خلال المفاوضة على الملف السوري، إذ اعتبر أن روسيا تغطي نفسها ببعض القوانين المفيدة لها، مثل اعتبارها أن حكومة النظام شرعية، وهو الأمر الذي لم يستطع مجلس الأمن نزعه حتى الآن.
ولأن النظام شرعي، بنظر المجتمع الدولي (في الرواية الروسية)، فمن حقه بسط سيطرته على المناطق السورية بالطريقة التي يراها مناسبة، وهو الأمر الذي تستغله روسيا في الجنوب.
ويعتقد نصر اليوسف أن الجنوب السوري متاح بالنسبة للروس لعدم وجود أي قوات أجنبية فيه، كما هي الحال مع الشمال السوري الذي يحتوي على نقاط عسكرية تركية، ومناطق شرق الفرات التي تحظى بوجود أمريكي ودولي.
اتفاقيات لم تفضِ إلى نتائج
نقض النظام الاتفاق الأول في تموز الماضي، بعد الحصار الذي فرضه على المنطقة، واتهم “اللجنة المركزية” بنقضه على الرغم من نفيها ذلك.
الاتفاق نص على نشر حواجز أمنية من “الفرقة التاسعة” التابعة لقوات النظام داخل مدينة درعا البلد، لكن عناصر من “الفرقة الرابعة” حاولوا اقتحام المدينة بالتزامن مع بدء نشر نقاط أمنية في المدينة.
وجرت بعدها سلسلة من المفاوضات لم تفضِ إلى أي حلول في المنطقة، التي تعاني من حالة حصار خانق أكثر المتأثرين به هم آلاف المدنيين العالقين داخلها.
ومع بداية آب الماضي، دعا النظام إلى مفاوضات جديدة محاولًا كسب بعض الوقت لاستيعاب ما جرى في أرياف درعا، إذ أسفرت الهجمات عن أكثر من 200 أسير لقوات النظام بيد المقاتلين المحليين من أرياف المدينة، وأُطلق سراحهم باتفاقيات تبادل أسرى مع سكان المدن والقرى بريف درعا.
ومع فشل قوات النظام باقتحام المدينة عدة مرات على التوالي، عادت المفاوضات إلى الواجهة، إلا أن مصيرها كان الفشل، وعادت الاشتباكات والمواجهات المسلحة ومحاولات النظام لاقتحام درعا البلد إلى الواجهة من جديد.