إبراهيم العلوش
لم تعد الجمهوريات السورية امتدادًا لتطور زمني منذ الاستقلال إلى اليوم، بل صارت جمهوريات متقابلة في الزمن نفسه، فالسوريون يجدون أنفسهم اليوم مخطوفين في جمهوريات متعددة تحتويهم ولكنها لا تعترف بهم، فهذه الجمهوريات مشغولة فقط بنفسها وبعقائديتها وبعلاقاتها الدولية.
تترسخ جمهورية سورية جديدة مع صدور فتوى “المجلس الإسلامي”، في 8 من شباط الحالي، التي تؤكد على إسلامية سوريا وعروبتها وتتجاهل حرية السوريين في اختيار نمط هويتهم وأشكال حكمهم وعلاقاتهم القانونية، فكما فعلت جمهورية “البعث” وفرضت القومية والاشتراكية كغطاء رسمي لديكتاتوريتها ولطائفية قادتها، تتجه الفتاوى الدينية إلى فرض الدين الإسلامي والمذهب السني، كغطاء لديكتاتورية دينية مقدسة تفرض فتاواها ومجاهديها وعلاقاتها الدولية كمحدد لهوية السوريين، فيبدو أن الفصائل الدينية التي تحرّم الديمقراطية، وتمنع كل أشكال العيش التي لا تتناسب مع الفتاوى المذهبية، ستدير تحت بنادقها نمطًا جديدًا من الدولة الدينية التي تشبه دولة الملالي في إيران أو تشبه الدولة العثمانية، أو تشبه دولة “داعش” وخلافتها التي فرضت الدين كغطاء لوحشيتها.
في المقابل، تعيش جمهورية أوجلان السورية، في وادي الفرات وقرب الحدود التركية حيث يعيش معظم علماء “المجلس الإسلامي”، وتفرض “قسد” مفهومها القومي الاشتراكي الكردي، وتبشر بتنظيم سياسي طوباوي كغطاء لحربها الضروس من أجل انتزاع دولة قومية ممتدة على أربع دول أقرّت حدودها الدول الاستعمارية قبل قرن من الزمان، وتتحالف تلك الدول نفسها اليوم مع “قسد” وتدعمها بالطيران وبالمدفعية، وتتلاعب بأحلام الأكراد وتستغل شبابهم بحجة محاربة “داعش”.
في الشمال، تنمو جمهورية “تحرير الشام” في إدلب التي تعلن صراحة عداءها مع كل مكوّن يتجرأ على المطالبة بحريته أو بمعتقده خارج التوصيف الديني المذهبي، الذي تقره مجموعة من الأشباح اسمهم “هيئة الحل والربط”، الذين يدينون بتسميتهم لـ”الجولاني” الذي وصل إلى سوريا عبر تنظيم “القاعدة” رغم الإصدارات المسربة التي يزيّن بها نمط حكمه، وآخرها تغيير هيئة ملابسه، وتقديم نفسه للصحافة الغربية، بالإضافة إلى إشاعات احتمال اشتراكه بالانتخابات الرئاسية السورية المقبلة، لتقديم نفسه للعالم الخارجي كخليفة يلبس البدلة الإفرنجية.
وضمن جمهورية “البعث” الأسدية، تنمو جمهوريات متعددة، منها جمهورية إيران الإسلامية التي تتسلح بالميليشيات الإيرانية والأفغانية، وتعلن وصول أنوار الدعوة الخمينية إلى سوريا من البوكمال إلى حدود الجولان السوري، ويحتل فيها “حزب الله” مكانة تشبه مكانة حزب “البعث” في الجمهورية الأسدية، وهي جمهورية معنيّة بتمرير الصواريخ والأسلحة، وفتح خط إمداد من طهران إلى بيروت، والسوريون بالنسبة إليها مجرد بيادق وموجودات من الممكن الاستفادة منها في أعمال شق الطريق الطويل بين طهران وبيروت.
وتنمو جمهورية “حميميم” الروسية التي تستخدم بعض ضباط الجيش الأسدي الذين لم ينضمّوا بعد إلى “الحرس الثوري الإيراني” وميليشياته، وتستخدم هذه الجمهورية شعار حماية الطوائف والأقليات من الإرهاب الإسلامي السني كشعار يعمم صفة الإرهاب على كل من يعارض شرعية دولة الأسد، وتستغل بعض أبناء الطائفة الأرثوذكسية كغطاء إضافي لإضفاء القداسة والأصالة على القصف الروسي للمدارس والمستشفيات والأسواق التي تمتلئ بالإرهابيين!
وفي الجنوب السوري، تنمو ملامح جمهورية إماراتية- روسية تستغل أبناء درعا في تجسيد تبلورها تحت ذريعة حمايتهم من بطش النظام ومن نفوذ “حزب الله” وإيران، ويتم توجيهها للتنسيق مع النفوذ الإسرائيلي المتنامي في سوريا، بالإضافة إلى استغلال الظروف القاسية لتجنيد مقاتلين للحرب في الشمال السوري أو كمرتزقة في ليبيا وفي غيرها.
وفي السويداء، تنمو جمهورية جديدة تحاول انتزاع بعض التنازلات من مخالب النظام وبوسائل مدنيّة أو بوسائل دينية تستفيد من تلاحم أبناء الطائفة الدرزية أمام الفوضى التي زرعها نظام الأسد. ولكن النظام سرعان ما يُرهبها بوصول “الدواعش” الذين يسرّبهم إلى قلب قرى السويداء بشكل صار يبدو مكرورًا ولم يعد يصدّقه أحد.
وفي اسطنبول، تنمو جمهورية “الائتلاف” التي وجدت نفسها مخدوعة من كل القوى التي دعمتها سابقًا، وصارت أسيرة وجودها خارج البلاد، وهي تتعايش اليوم مع النفوذ التركي فيها، ومع هيمنة “الإخوان المسلمون” وحلفائهم عليها، ولا تكاد تسيطر حتى على فصائل “الجيش الحر” التي يقودها الأتراك من اعزاز إلى تل أبيض ورأس العين.
وفي الرياض، تنمو جمهورية “هيئة التفاوض” التي لا تزال مدعومة من قبل دول الخليج ومن بعض الدول الأوروبية، وهي غير قادرة حتى الآن على صياغة أهدافها العامة، وغير قادرة على بلورة قواها على أرض الواقع، وكأنما هي كيان قابل للاستخدام المؤقت ريثما تتفق الدول المتنافسة على الأرض السورية بصياغة أهداف لها تتناسب مع رغبة الرابحين في الميدان السوري.
أما الجمهورية السورية التي نادى بها المتظاهرون منذ آذار 2011 فهي غير مجسّدة اليوم بقوى خاصة بها، رغم أنها كانت واضحة في أهدافها، وهي الحرية والكرامة وتعايش السوريين في بلد واحد رغم اختلافاتهم الدينية والمذهبية، واختلاف توجهاتهم الاقتصادية وتفسيراتهم التاريخية لظهور الكيان السوري.
تلك الجمهورية التي حلم بها السوريون ودفعوا ثمن المطالبة بها من دماء أبنائهم، وكان تدمير المدن والقرى وتهجير الشعب من أفحش الأثمان التي دفعوها، فلا أحد يعود إلى ناسها ولا أحد يعبأ بأهدافهم، فكلّ الجمهوريات السورية الموجودة اليوم على الأرض تحاول فرض أهدافها على السوريين، أهداف مكدّسة ومخزّنة منذ عقود أو منذ قرون، وبمختلف النكهات العدوانية والطائفية، ولا أحد ينتبه إلى أن السوريين لهم أهدافهم الخاصة وحلمهم الخاص، وهم عندما قاموا بثورتهم لم يكونوا ضد الإسلام ولا ضد الأقليات ولا ضد العلاقات الدولية التي تحترم بلدهم، بل إن مطالبات السوريين هي تجديد وإعادة صياغة الأهداف الجوهرية التي تحدد الهوية السورية بعيدًا عن الأحزاب القومية التي ولدت مع صعود النازية في أربعينيات القرن الماضي، وبعيدًا عن التكفير وعن إيقاف الزمن للعودة إلى زمن الخلافة.
لقد كانت عفويّة السوريين وتماسكهم في سنوات الثورة الأولى مفاجئة للنظام وللإسلاميين ولليساريين، وكانت مفاجئة لكل أشكال جمهورياتهم المستهلكة. وأيضًا كانت مفاجئة للدول الصديقة وللدول العدوّة، ولعلها ستظل مقلقة لكل من يحاول إعادة السوريين إلى قمقم الأهداف التاريخية المجيدة!