عنب بلدي – حلب
خرجت السيارات محملة بالأدوات المنزلية من بلدات كفرة حمرة وحريتان وعندان وبيانون وحيان، بريف حلب الشمالي، مارة من أمام أعين ياسر وهو جالس داخل محله الذي عاد إليه بعد النزوح، ليشهد على سرقة لا يملك لصدها حق الاعتراض.
تنقل السيارات أغراض المدنيين من البلدات التي كانت خاضعة لسيطرة المعارضة، قبل عام، إلى داخل مدينة حلب، وتفرغ في محال بيع الأدوات المنزلية المستعملة، مثل البرادات والغسالات والتلفزيونات.
تحدث عمليات البيع من قبل عناصر قوات النظام بعلم ضباطهم، نهارًا وبشكل علني، وفي بازارات، يدفع فيها الشاري عند الشراء والنقل عبر الحواجز أيضًا.
مناطق “التعفيش” مقسمة حسب الأفرع
تقسم بلدات ريف حلب الشمالي، التي سيطرت عليها قوات النظام السوري منتصف شباط من عام 2020، إلى أربعة قطاعات عسكرية، إذ يسيطر فرع “المخابرات الجوية” على بلدتي حريتان وحيان، بينما يسيطر فرعا “الأمن العسكري” و”أمن الدولة” على بيانون وعندان.
وتسيطر “الفرقة الرابعة” على كفر حمرة، وتنشر حواجزها على طول الطريق في ريف حلب الشمالي، حيث تفرض مبالغ كبيرة لمرور السيارات بجميع أنواعها، حتى الخاصة منها، بحسب ما قاله ياسر، تحفظ على ذكر اسمه الكامل، الذي عاد إلى بلدته بيانون بعد نزوحه بسبب القصف والمعارك، “للأسف كانت السيارات تخرج من البلدة وهي محملة بأغراض المنازل المعفشة من قبل عناصر النظام”.
اضطرت العائلات للهرب “فجأة” عند انهيار الدفاعات لفصائل المعارضة المسلحة، وإعلان النظام وميليشياته السيطرة على تلك البلدات، التي شملت أجزاء من ريف حلب الغربي مثل المنصورة وكفر داعل وتلة شويحنة.
وشاهد عناصر النظام شاشات التلفزيون في منازل المدنيين التي دخلوها وهي لم تُطفأ، بحسب ما قاله لعنب بلدي أحد عناصر النظام الذين شاركوا في عمليات التمشيط، إذ لم يستطع المدنيون أخذ شيء سوى ملابسهم الشخصية.
تمكن ياسر من مغادرة بلدته في 11 من شباط 2020، والتوجه إلى داخل مدينة حلب عبر إحدى سيارات الإسعاف، “لم نستطع أخذ شيء من أغراض المنزل، التي تشمل كل شيء، بما في ذلك من أدوات منزلية كهربائية وأغراض المنامة، ووصلتُ إلى حي ميسلون وبقيتُ لفترة في منزل خالتي، لكنه كان خاليًا تمامًا”.
تجهيز منزل النزوح المؤقت للسكن كلف نحو ثلاثة ملايين ليرة سورية (نحو 2900 دولار حسب أسعار الصرف عام 2020) قبل العودة إلى بيانون، “وجدتُ منزلي معفشًا ولم يبقَ فيه شيء”، قال ياسر، مقدرًا قيمة خسائر منزله بـ4.5 مليون ليرة (نحو 4300 دولار).
لم يستثنِ عناصر قوات النظام عند “التعفيش”، وهي الكلمة المحلية التي وصفت سرقة بيوت النازحين والمهجرين، أيًا من أغراض المنازل، و”قد يصل حتى إلى قلع السيراميك والبورسلان لبيعه”، حسبما قال بائع للأدوات المنزلية المستعملة لعنب بلدي، متحدثًا عن آلية البيع والشراء للأغراض المسروقة.
بازارات عسكرية
تنتشر بازارات بيع الأثاث المنزلي المسروق من منازل المدنيين ضمن بلدة كفر حمرة، قرب طريق الكاستيلو، “ويقف على البازارات عناصر من الفرقة الرابعة، أو فرع المخابرات الجوية، وحتى عناصر من فرع أمن الدولة”، حسبما قال البائع الذي تحفظ على ذكر اسمه لأسباب أمنية.
يحمل المشترون الأغراض بسياراتهم الخاصة، وخلال مرورها بحواجز “الفرقة الرابعة”، يضطر السائق لدفع مبلغ كرسوم لعناصر الحاجز من أجل السماح له بالمرور، حسبما قال البائع، مضيفًا أن تلك الحواجز لا تستثني أحدًا “حتى وإن كنا قد اشترينا تلك الأدوات المنزلية من عناصر الفرقة الرابعة”.
تحدث عمليات بيع الأدوات المنزلية “المعفشة” في أسواق البلدات، وأحيانًا تحصل ضمن منازل المدنيين نفسها، حين يأخذ عناصر قوات النظام المشتري إلى المنازل المغلقة، “وبعد الاتفاق على الشراء، يحمل المشتري الأغراض بسيارات على تكلفته الخاصة”.
تمر السيارات التي تحمل الأغراض “المعفشة” على طريق دوار الليرمون، الذي يربط بلدات كفر حمرة وعندان وبيانون وحريتان ببعضها، وتنتشر عليه حواجز “الفرقة الرابعة” التي تجبر المارين على دفع مبالغ مقابل السماح لها بالمرور والتوجه إما إلى حلب المدينة وإما إلى بلدات الريف الشمالي والغربي لحلب.
الأغراض “المعفشة” مرغوبة للمشترين
تنتشر محال بيع الأدوات المنزلية المستعملة في أحياء مدينة حلب، وتشهد إقبالًا على الشراء بسبب أسعارها المقبولة للمدنيين، خاصة أن سعر الأدوات المنزلية الكهربائية الجديدة لا تتناسب مع قدرتهم الشرائية، إذ يبلغ سعر البراد الجديد، من نوع “حافظ”، مليونًا و200 ألف ليرة سورية (400 دولار)، بينما المستعمل لا يتجاوز سعره 500 ألف ليرة (نحو 167 دولارًا)، وكذلك الغسالة الأوتوماتيكية الجديدة، من نوع “LG” يبلغ سعرها 900 ألف ليرة (300 دولار)، وأما المستعملة فلا يتجاوز سعرها عتبة الـ350 ألف ليرة (116 دولارًا).
يبحث الباعة عما يطلبه المشترون من المنازل “المعفشة”، “يسأل بعض المشترين عن مصدر هذه الأغراض، وعند معرفتهم يتراجعون عن شرائها وبعضهم الآخر لا مشكلة لديهم”، قال بائع الأغراض المستعملة، مضيفًا، “أعتبر هذا العمل تجارة، وأنا أشتري هذه الأدوات المنزلية بأموالي، وليست لدي أي مشكلة إن كانت معفشة أو غير ذلك”.
بعض المنازل في بيانون ما زالت مقفلة من قبل عناصر “الأمن العسكري”، الذين يقومون بالبيع لمن يدفع أكثر، حسبما قال أحد عناصر الأمن، تحفظ على ذكر اسمه، لعنب بلدي “نعرض الأثاث المنزلي وما يحويه المنزل من أدوات كهربائية، وأوانٍ للطبخ، وحتى الأغراض المستخدمة للنوم”، وفي حال دفع المشتري المبلغ المطلوب تباع له، وتحدث بازارات في وقت محدد بعد استعراض أدوات منزلية لأكثر من منزل، ومن يدفع أعلى سعر يحصل عليها، وتنقل الأدوات المنزلية على دفعات “بمعدل مرتين كل يوم”.
وكانت أولوية بيع الأدوات المنزلية في بلدات ريف حلب الشمالي لعناصر النظام، الذين يعملون مع الأفرع الأمنية، ولكن مع مرور الأيام، أصبح العناصر يروجون لها في محال بيع الأدوات المنزلية المستعملة، حسبما قال عنصر “الأمن العسكري”، “كنا نفضل أن نبيع الأثاث المنزلي لأصدقائنا الذين يملكون محال لبيع الأدوات المنزلية المستعملة، ولكن مع مرور الوقت وبقاء المنازل مقفلة، أصبحنا نعرضها على أصحاب محال بيع الأدوات المنزلية المستعملة، عن طريق أصدقائنا في فرع الأمن العسكري”.
يتقاسم عناصر قوات النظام الأموال بعد عمليات البيع، ومع أن الضباط لا يشرفون على البيع أو البازارات، لكنهم يحصلون على نصيبهم من عمليات البيع بشكل يومي.
تبلغ نسبة الضباط عن كل عملية بيع حوالي 60%، وتتراوح المبالغ التي يتسلّمها الضباط ما بين مليونين وأربعة ملايين ليرة يوميًا، ولا يقبلون بما هو أقل، حسبما قال عنصر في “المخابرات الجوية”، تحفظ على ذكر اسمه، لعنب بلدي.
“منذ حوالي شهر لاحظ الضابط المناوب أن المبالغ التي يتم تسليمها عقب عمليات البيع غير صحيحة، إذ يقوم بعض العناصر بسحب مبالغ منها”، وبعد ذلك تعرض عناصر النقطة لعقاب جماعي، حسبما قال عنصر “المخابرات”، وتمثل العقاب بسجن بعض العناصر في زنزانات انفرادية وحلاقة شعرهم، بالإضافة إلى حرمان بعض منهم من الذهاب إلى منازلهم لقضاء الإجازات الشهرية.
خيارات محدودة للعائدين
شهدت بلدات ريف حلب الشمالي عودة بعض العائلات إلى منازلها، خلال الأشهر الستة الماضية، بعد أن ضاقت خياراتهم البديلة للسكن في مدينة حلب، وزادت الإيجارات الشهرية.
وعقب إعلان النظام وميليشياته السيطرة، وُجهت دعوات للمدنيين الفارين من أجل العودة، غير أن الأعداد التي عادت لم تبلغ ربع السكان الأصليين، بحسب تقديرات السكان الذين يرقبون عودة جيرانهم.
لكن العائدين تعرضوا لمضايقات عند الحواجز المتمركزة بمداخل تلك البلدات، وحسبما قال ياسر، الذي عاد إلى بلدة بيانون في أيلول من العام الماضي، فإن ستة شبان اعتقلوا على الحاجز عند مدخل البلدة وهم يحاولون الوصول إلى بيوتهم.
رأى عارف، وهو أحد سكان بلدة حريتان، أغراض منزله معروضة للبيع، “ولكن لم أستطع القيام بشيء، وأي تصرف يمكن أن يتسبب لي بمشاكل أمنية”، حسبما قال لعنب بلدي.
“خلال تجولي في البلدة في أيلول الماضي من أجل شراء بعض مستلزمات المنزل، تفاجأت بأحد الأشخاص وهو يبيع أغطية وحرامات كانت موجودة في منزلي، اقتربت منه وسألته عن سعر الفرش فقال لي بـ300 ألف ليرة سورية، وهنا أصبتُ بخيبة أمل بأن أغراضي سُرقت من منزلي وها هي تباع، وسألت عن صاحب المحل ليقول لي أحد أصدقائي إنه عنصر يعمل لصالح المخابرات الجوية”، كما قال عارف، مضيفًا أنه امتنع عن شراء أغراضه من جديد.
ولا يستطيع سكان البلدات العائدون الشكوى على عناصر النظام الذين يقومون بـ”التعفيش”، لأنهم من يسيطر على المخافر، كما قال عارف “حاميها حراميها، ولا نستطيع فعل شيء، سوى انتظار العدالة الإلهية ضد هؤلاء الوحوش الذين سرقوا تعبي بهذه الطريقة”، مقدرًا خسارته من أغراض منزله وورشته الخاصة بالخياطة بنحو 60 مليون ليرة سورية (20 ألف دولار)، معتمدًا اليوم على الدَّين لمحاولة بدء عمله من جديد.