عام جامعي جديد
إبراهيم العلوش
عشرات ألوف الطلاب السوريين يدخلون الجامعات لأول مرة في أيلول الحالي، وأضعاف عددهم يتابعون الدراسة الجامعية، سواء في الداخل السوري أم في دول اللجوء والاغتراب، فهل يتوجه التعليم الجامعي إلى أهداف جديدة تناسب المرحلة التي وصلت إليها البلاد من انهيار النظام وتدمير المدن وتشتت الكفاءات السورية، وهل سيتم تعويض الخسائر العلمية والفكرية؟
تفتخر العائلة السورية بشكل تقليدي بدخول أحد أبنائها إلى الجامعة، وتعتبر أن هذا الدخول هو إنجاز مهم قامت به العائلة من أجل حماية ابنها أو ابنتها، وتأمين مستقبله أو مستقبلها، وكذلك مستقبل العائلة المادي والمعنوي، لذلك تزدحم الطلبات على كليات الطب والهندسة والحقوق، لأنها توفر فرص عمل شبه مضمونة في بلد يفتقر إلى النمو الاقتصادي، بالإضافة إلى كون الأعمال في هذه المجالات تنحو إلى العمل الحر وخارج سلطة الجهاز الحكومي، الذي طالما اتسم بالمحسوبيات وبفرض الأفكار المسبقة، والإجبار على عبودية المديرين والخضوع لكبار المسؤولين، وربما الوقوع تحت التأثير المباشر لأجهزة المخابرات السيئة السمعة.
منذ تأسيس الجامعة السورية في مطلع القرن الـ20، ورغم عسف السلطة السياسية وتدخلها في الحياة العامة والشخصية بعد انقلاب “البعث” 1963 وهيمنة العسكرة على المجتمع، ظلت الجامعة السورية ملاذًا للأفكار الجديدة والمتحضرة وللنقاشات الفكرية والفلسفية، ودراسة الدين فيها حافظت على مقدار جيد من المنطقية في الأفكار، حتى جاءت كتائب “البعث” والمظليين في الثمانينيات، الذين دخلوا الجامعة بشكل تعسفي وبلا أي كفاءات يمتلكونها، ولم يتمكنوا من فهم المقررات الجامعية المعقدة، فتفرّغوا لكتابة التقارير وتشكيل الميليشيات الجامعية التي كانت تقوم بدور التشويش على الكوادر التدريسية، وتتهم هذا الأستاذ أو ذاك بالرجعية أو بمعاداة الثورة البعثية. ومع وصول كثير من الخريجين المبتعثين من رومانيا وروسيا وأرمينيا دخل كثير من غير الأكفاء في السلك الجامعي، حاولوا تغيير مسار العملية التعليمية وحرف أهدافها العلمية إلى أهداف ميليشياوية تتسم بالعنف، نتيجة شعور بعض منهم بالدونية لعدم كفاءته العلمية، وعدم قدرته على الرد حتى على طلابهم في المسائل العلمية، بالإضافة إلى شيوع بيع شهادات الدكتوراه إلى حد عبثي.
تصدت الجامعة السورية لموجة المظليين في الثمانينيات، واستطاعت نفيهم خارج العملية التعليمية، وتحول كثير منهم إلى وظائف أمنية أو إدارية في المدن الجامعية أو في دوائر الجامعة للتجسس على الأساتذة، والتمهيد للموجة القادمة من التجنيد في عصابات اتحاد الطلبة الذين كانوا في طليعة حملة العصي والمسدسات بوجه مظاهرات الثورة في عام 2011.
كما قامت الجامعة بإعادة تأهيل كثير من الأساتذة الذين فُرضوا عليها أمنيًا من خريجي الجامعات الروسية والشرقية، واستجاب كثير منهم وتابعوا دراساتهم العلمية، وصاروا جزءًا أصيلًا من العملية التعليمية.
غير أن الفشل حصل في كليات الشريعة الإسلامية التي كانت تخضع منذ الثمانينيات إلى ضغط أمني كبير، وتمت جدولة الدخول إليها وحصرها بالأعضاء العاملين في حزب “البعث”، الذين يخضعون بدورهم إلى دراسات أمنية للتأكد من حتمية انخراطهم في الإخبار عن زملائهم، وعن أساتذتهم الذين كانوا متهمين قبل أن يفعلوا أي شيء، وكان لهذه الفئة دور كبير في تخريج جيل جديد من أئمة الجوامع الذين يجاهرون بكتابة التقارير، وبتبعيتهم لفروع المخابرات العسكرية أو الجوية، ناهيك عن تحويل مديريات الأوقاف إلى فروع تجسس على الناس وعلى الأئمة وعلى كل مرتادي الجوامع.
الكليات المدنية، ورغم كل الضغوطات الأمنية، ظلت تخرّج كفاءات محبة للعلم، وظلت تحاول ترسيخ الروح العلمية في عقول طلابها رغم كل تآمرات الكتائب البعثية وعصابات اتحاد الطلبة والفرق الحزبية المعششة فيها.
وقد تجلى النجاح النسبي للجامعات السورية بتخريج أعداد كبيرة من الأطباء والمهندسين وأساتذة اللغة العربية، الذين انتشروا في الخليج وفي المغرب العربي وحتى في الدول الأوروبية.
أما الفشل الأكبر فهو الفشل في الكليات والأكاديميات العسكرية، فقد تمت الهيمنة عليها منذ الستينيات من قبل الأكاديميات الروسية وأكاديميات أوروبا الشرقية، بالإضافة إلى خضوعها إلى الزبائنية، واتسامها بالروح الميليشياوية الطائفية التي كانت تستهتر بالعلم العسكري، ولعل شعار الاختبارات “صفر الجيش يساوي ستين بالمئة” من أهم علامات الاستهتار، وبنت هذه الكليات سطوتها بالعنف المخابراتي الذي حوّل القطع العسكرية إلى مستوطنات أمنية وطائفية تتباهى بالجهل، ولا تعوّل إلا على التخويف المسلح، الذي أثبت فعاليته ونجاحه في أحداث الثمانينيات، وأخضع الدولة والمجتمع، وثبّت حافظ الأسد كنصف إله يفعل بالدولة وبقوانينها ما يشاء!
وتأتي زيارة لافروف والوفد المرافق إلى دمشق، التي تمت الأسبوع الماضي، في سياق إعادة السيطرة على المجتمع والاقتصاد السوري وعلى الجيش ومنه هذه الكليات العسكرية، ومنافسة “الحرس الثوري الإيراني” الذي يحاول ترسيخ قيمه الطائفية فيها.
الطلاب الجامعيون الذين يذهبون اليوم إلى الجامعات في الداخل السوري يواصلون افتخارهم بالعلم وبالمعرفة، وتصرف عليهم عائلاتهم كل ما تستطيعه، رغم الحاجة التي وصلت بالبعض إلى حد الجوع، وهم يذهبون اليوم إلى جامعات الداخل التي تخضع للمزيد من الابتزاز والتزوير.
ويذهب طلابنا الجامعيون في المهاجر إلى جامعات متنوعة وبلغات عديدة سواء في دول اللجوء القريب مثل لبنان والأردن وتركيا، أم البعيدة مثل أوروبا وأمريكا وكندا، وكثير منهم عبَر البحار وخاطر أهله من أجل أن يؤمّن مستقبله ويدرس في الجامعة، وهؤلاء الطلاب حتمًا سيخرجون بأفكار جديدة لم تعرفها سوريا من قبل، من حيث الكفاءة في التعليم والفاعلية في دراسة الواقع السوري وقواه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وكانت هذه المجالات متروكة لفروع الدراسات في المخابرات طوال نصف قرن، وهو عمر هيمنة عائلة الأسد على سوريا.
عام جامعي جديد يجدد لنا الأمل بطالباتنا وبطلابنا في سوريا وعبر العالم.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :