محاولات الانتحار وراء الأبواب الموصدة في الغوطة الشرقية

  • 2015/07/05
  • 2:45 م

أريد الموت ولكنه لا يريدني

حنين النقري – عنب بلدي

«كلّ من أردتهم ورغبت بوجودهم لم يرغبوا بي وتركوني، حتى هو.. حتى الموت، أريده لكنّه لا يريدني!»؛ بهذه الكلمات ختمت منى حديثها بعد محاولةٍ ثالثةٍ للانتحار باءت كسابقاتها بالفشل؛ وهي القصة التي تكرّرت على مسامع نور، ناشطة بمجال الدعم النفسي في أحد المراكز المختصّة في الغوطة الشرقيّة، من عدة فتيات مؤخرًا، وتشعر باحتمال تطورها إلى ظاهرة وفق ما تقول خلال حديثٍ إلى عنب بلدي.

«الزواج من الموت»

منى شابة في أواخر العشرينيّات، منعها الحصار من إكمال دراسة الماجستير في جامعة دمشق، تعيش في عائلة يسودها الشحناء وعدم التفاهم، كانت تتهرب من الجوّ المتوتّر بالخروج يوميًّا إلى الجامعة، لكنّها اليوم تعوّض هذا بالعمل، «أستيقظ في السادسة صباحًا لأقوم بالمهام المنزلية ثم أتوجه إلى عملي؛ أعمل بدوامين رغم حالة أهلي المادّية الممتازة، ولو استطعت أن أغيب عن البيت أكثر لفعلت».

وتفسّر منى غيابها عن المنزل بكرهها الشديد لأهلها «أمي وأبي لا يحملان أي مشاعر حب لي، يرغبان ببقائي معهم لأكون خادمة لإخوتي الشباب، ليس لدي أخت لأودعها أسراري ومشاعري ومعاملة إخوتي الشباب سيئة، ليس لي أحد في هذا المنزل»، معتبرةً أن العيش في منزل أهلها غدا «جحيمًا» لا تتحمله؛ بل تفضّل «جحيم الآخرة» على الاستمرار فيه.

أبرز ما شكّل «الندب النفسية» لمنى حسب تعبير الآنسة نور هو الألفاظ التي تنادى بها في المنزل، تقول منى «منذ صغري ينعتني أهلي بالقبح؛ يترافق اسمي عندهم مع نداء: يا بشعة، حتى صارت الصفة لصيقة بي واقتنعت أنا نفسي بها».

ورغم قناعة منى بقبحها أتاها يومًا خاطبٌ «محبٌّ وصالح» حسبما تصفه، لكنّ ممارسات الأهل وافتعالهم المشاكل جعل الباب الوحيد الذي فتحه لها القدر يُغلق في وجهها مجدّدًا «نفّر أهلي علاء، كان خلوقًا وأحبني، لكنّهم عاملوه بسوء ولم يتركوا للودّ محلًا حتى تركني بعد خطبة دامت 9 أشهر، وكانت ردة فعل أهلي على فسخ الخطبة أنه أمر طبيعي، فأنا بشعة وعلاء لم يحبّني منذ البداية».

وهكذا، بعد سلسلة من الآلام والخلافات مع أهلها قرّرت منى أن تنهي ذلك كلّه بتناول جرعات كبيرة من الدواء «لكنّ الحظ لم يسعفني وأنقذتني زميلاتي في المرات الثلاث من الموت الذي أبحث عنه».

تقول منى إنها لن تترك مجالًا لأن ينقذها أحدٌ في المرة المقبلة «لن أترك للدواء فرصة لإخبار أحد بأنني ارتديت الطرحة وأنتظر اللحظة الحاسمة لأغادر إلى داري الجديدة؛ هل يصل الإنسان إلى مرحلة من الكره يريد أن يعاقب نفسه بأن يخسر حياته وآخرته أيضًا؟ أنا أريد».

رويدة.. محاصرة

«أريد أن أوفّر حصتي من الطعام، وأتركها لأمي وأخواتي» بهذه الكلمات ترجّت رويدة (18 عامًا) المسعفين عندما أنقذوها في اللحظات الأخيرة من الموت، واصفةً عائلتها بـ «عيلة البنات»، فوالدها معتقل في سجون النظام منذ عامين، لتصبح منذ اعتقاله المعيل الوحيد لأسرتها.

أجبرت الظروف رويدة على العمل كمسؤولة نظافة في أحد المراكز التعليمية في الغوطة الشرقيّة، الأمر الذي لم تستطع التصالح معه، كما تقول، «نظرات الناس لي قاسية ولا أتحملها، ولا أحمل حتى شهادة إعدادية تمكنني من العمل في مكان أفضل، أو نيل راتب أعلى».

تضيف رويدة أن راتبها كان يكفيها وأخواتها وأمها إلى أن تزوجت أختها الكبرى وأتت مع زوجها ليقطنا مع العائلة ويشاركوها الزاد ذاته، «اللقمة التي نأكلها مغمّسة بفقداني لكرامتي، وأمي تطالبني بمزيد من العمل لأسدّ حاجات أخواتي؛ أوفر من طعامي لأجلهنّ وأنا مطالبة أن أقدّم أكثر».

وهكذا تفاقمت حالة رويدة بين ضغط اعتقال والدها والصعوبات المادية والضغوط النفسيّة الناجمة عن العمل ونظرة الناس لها، لتحاول الانتحار مرّتين في أسبوع واحد؛ تقول رويدة «أعرف أن الانتحار حرام لكنّ الاستمرار بحياة قاسية هكذا غير ممكن، أريد الانتحار عسى أن يغفر الله لي زلّاتي».

بصيص أمل!

عن طريق الحبوب الدوائية حاولت ميساء، وهي عشرينية مقيمة في الغوطة، الانتحار أيضًا؛ حاولته مرارًا حسب أمّها التي قرعت كل الأبواب لإنقاذها وتجنيبها الموت، وتروي السيدة أم ميساء حكايتها من البداية «كما ترين، ابنتي ميساء صمّاء وبكماء منذ الولادة؛ رغم ذلك فهي أكثر أبنائي صحّة فجميعهم ولدوا بإعاقات بسبب القرابة العائلية بيني وبين زوجي».

ورغم أن ميساء أقل إخوتها إعاقةً إلا أنّها تقارن نفسها بالأصحاء من أترابها في العائلة، تقول أمها إن الأمور بدأت تتفاقم عندما رأت صديقات طفولتها يتزوجن «للأسف ساهمت عائلتي وعائلة زوجي بسوء حالتها بسبب إذلالهنّ وكلماتهن عن إعاقتها وشكلها، صحيح أنها لا تسمع ما يقلن لكنها تشعر به وتبكي».

أيقنت أم ميساء أنها لن تستطيع مراقبتها وإنقاذها في كلّ مرّة، فذهبت بها إلى مركز لتأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة وطلبت من مديرته أن تساعد ابنتها، تقول أم ميساء «طلبتُ من المديرة أن توكل أي مهمة لابنتي فهي ذكيّة، علّ العمل يشغلها عن التفكير بالموت ومقارنة نفسها مع الأصحاء جسديًا».

ويبدو أنّ حلّ الأمّ كان ناجعًا، فقد لاحظت منذ اليوم الأوّل رغبتها بالإنجاز والحياة؛ الأمر الذي بدا بوضوح لأعضاء المركز ومنهم مديرته السيدة أم محمد إذ تقول «رغم أن عمل ميساء تطوعي كما كلّ المساهمات معنا إلا أنها أحبته كثيرًا، اليوم تأتي للمركز قبل افتتاحه صباحًا لشوقها للعمل؛ أبدعت بشكل خاص في التطريز والأعمال اليدوية، كما أنها صنعت جوًّا جميلًا مع البقية»، معتبرةً أن الحالة «توضح أهمية الدعم النفسي لحالات الانتحار، فالإنقاذ ليس فقط في إيقافها في اللحظة الأخيرة بل بإزالة السبب الذي جعلها تفكر به».

ترى الآنسة نور، الناشطة في مجال الدعم النفسي، أن «المجتمع يسهم غالبًا في التعتيم على محاولات الانتحار لأنها تعتبر عارًا ودليلًا على نقص الإيمان»؛ مضيفة «طرحتُ الموضوع على جهة إعلامية بغية الإسهام في معالجته فاعتذروا بحجّة أننا مجتمع إسلامي ولا يوجد لدينا انتحار، وهكذا يساهم الأهل بخوفهم من كلام المجتمع في تفاقم الوضع بدل علاجه».

ماذا يقول علم النفس؟

للبحث أكثر في دوافع الانتحار كان لنا لقاء مع الأستاذة أسماء رشدي، وهي أخصائية في علم النفس، وقد ركّزت على أهمية دعم الذين حاولوا الانتحار «يحتاج الشخص الكثير من الدعم خلال الأسابيع والشهور التالية لمحاولة الانتحار؛ فهذا الوقت هو الأكثر خطرًا وترجيحًا لتكرار المحاولة، وفي هذه الحالة يكون التركيز في الشفاء منوطًا بالبيئة المحيطة سواء الأهل أو صديق يُوثق به».

وتضيف الأستاذة أسماء «بعد تأكدنا من استقرار الحالة الطبيّة وفحص الشخص الناجي وتجاوزه الخطر الجسدي؛ الأهم هو توفير جوّ آمن وهادئ وإيصال مشاعر التقبّل والاهتمام والحب له».

وضربت الأخصائية أمثلة عن العبارات التي يمكن استخدامها من قبيل: من المؤسف أنك مررت بتجربة  مرعبة كهذه لكنني سعيد لأنك لا زلت على قيد الحياة، سأبقى إلى جانبك وأساعدك بما أستطيع، يمكنك أن تطلب مني ما ترغب به عندما تريد؛ «كلمات كهذه تعطيه الأمان الذي يحتاجه بالدرجة الأولى».

وترى رشدي أنّ طريقة تعامل المجتمع مع موضوع الانتحار تزيد علاجه تعقيدًا «للأسف لا زال يشكّل وصمة عار لذا يخشى المقرّبون من محاول الانتحار الحديث عنه بسبب موجة إطلاق الأحكام والانتقادات؛ لا بدّ من التوعية وتغيير طريقة التفكير هذه لأخذ الموضوع على محمل الجدّ بشكل خاص في المجتمعات الإسلامية التي لا يوجد فيها إحصائيات أو دراسات دقيقة وكأن الموضوع غير مهم».

قصص ثلاث؛ لكلّ منها حكاية ودافع لفتيات صارت دوافع الموت لديهنّ تفوق أسباب البقاء؛ تحدّثنا معهنّ لكنّنا لا ندري من منهنّ ملّت من قرع باب الموت ومن ستعاود التسلل إليه، وبين ما نعلمه وما نجهله ننقله ونسمعه؛ آلاف الحكايات المدفونة خلف الأبواب الموصدة.

الانتحار عالميًا

في تقرير نشرته منظمة الصحة العالمية في أيلول 2014، أشارت أن ما يزيد عن 800 ألف شخص ينتحرون سنويًا، بالإضافة لأضعاف هذا العدد يحاولون الانتحار ويفشلون.

– يعتبر الانتحار ثاني أهم سبب للوفاة لمن تتراوح أعمارهم بين 15-29 عامًا.

– معدل انتحار الذكور أربعة أضعاف معدل انتحار الإناث؛ لكنّ نسب محاولات الانتحار عند الإناث أكبر لأن الذكور ينتحرون بطرق عنيفة وحاسمة على الأغلب.

  • تقدّر منظمة الصحة العالمية بأن قرابة 30% من حالات الانتحار تتمّ بواسطة المبيدات الكيميائية والأدوية.

مقالات متعلقة

مجتمع

المزيد من مجتمع