“من لك بشيء يجمع الأول والآخر، والناقص والوافر، والشاهد والغائب، والرفيع والوضيع، ولا ينطق إلا بما تهوى”، يقتبس الفيلم في أول مشاهده عبارة الأديب العربي الجاحظ في وصف أهمية القراءة، إذ تنقل أوراق الكتب الإنسان إلى أحاسيس لا يعيشها في واقعه اليومي.
ثم تنتقل كاميرا مخرج الفيلم القصير، بدر الحمود، إلى منزل أمين مكتبة يعيش في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيريس، حيث يأتيه رجل كبير السن ليبيعه كتابًا غامضًا لا بداية له ولا نهاية.
الفيلم (20 دقيقة) تدور أحداثه في عام 1975، لعب دور شخصية أمين المكتبة الممثل اللبناني المسرحي أنطوان كرباج، وأُنجزت عمليات تصوير الفيلم في العاصمة اللبنانية بيروت.
وكتب أحداث الفيلم عبد الله العياف عن نص للكاتب السعودي خالد اليحيى، الذي استوحى النص من الأدب العالمي عن كتابات الروائي الأرجنتيني خورخي بورخيس.
حين يبيع الرجل كبير السن “كتاب الرمال” لأمين المكتبة، يحذره من التهاون في قراءة صفحاته كونه “ليس كأي كتاب”.
نصوص الكتاب مرتبة في شكل آيات، ووُضعت في أعلاه أرقام عربية، ما دفع أمين المكتبة إلى التساؤل حول نوع الكتاب وكيف يصنفه، هو خفيف الوزن بالرغم من احتوائه على 40 ألف صفحة ذات ترتيب عشوائي.
صفحات تقيس التاريخ بالخيال
تبدأ صفحات الكتاب الذي لم يُعرف صاحبه، بوصف البشر على أنهم كائنات من “نيفرلاند” بلاد الأساطير، والقصص تعيد تشكيل خيالاتهم وتعزز قيمهم الأخلاقية وتهبهم عالمًا مسالمًا يأمنون فيه من الخوف والهلع.
والقصص، بحسب الكتاب، هي طقس يفصل البشر عن الحياة اليومية، وتمرين خيالي يحطم حواجز الزمان والمكان، تغزو وجود الفرد، وترفه عن مشوشي، التفكير وتشوش على أولئك الذين ظنوا أن تفكيرهم مجرد رفاهية.
يستند الفيلم في أغلب مشاهده إلى رسوم “الغرافيتي” لتأمين رؤية خيالية تساعد المشاهد على الاندماج بنصوص “كتاب الرمال” أكثر.
يقول الكتاب في إحدى صفحاته، إن الفيزياء تؤكد للإنسانية أن الأجسام مكونة من فراغ هائل، فالمسافة بين حبر القلم على الورقة بالنسبة للإلكترون، يمكن أن تساوي المسافة بين الإنسان والشمس.
ويطرح الكتاب التساؤل عن احتمالية وجود عوالم في تلك المسافة الفاصلة بين سطح الورقة والحبر، مخلوقات من ظل الحبر تسرح وتمرح لتصنع القصص، كما الفراغ بين الذرات والإلكترونات هي من تصنع أجساد البشر، يمكن لتلك المسافة بين الحبر والورقة أن تصنع أفكار الإنسان.
تتنقل عيون أمين المكتبة بين صفحات الكتاب، إلى أن تصل إلى صفحة تتحدث عن الحرب العالمية الثانية، حين اخترعت البشرية صواريخها لتمطر فوق سماء لندن، آنذاك.
وتتضمن الصفحة صورة تعود لأيام الحرب، تظهر بقايا مكتبة مهدمة، وفي وسطها تتراكم أعمدة الخشب وقطع الأثاث، أما الرفوف المثبتة على الجدران فبقيت في مكانها والكتب فيها بحالة جيدة.
وفي الصورة ثلاثة رجال يقفون وسط الركام، يصفهم الفيلم بأن الأول متردد يتفحص الكتب، والثاني يمد يده لالتقاط أحد الكتب مرتديًا نظارته، والثالث يقرأ في كتاب مفتوح.
جميعهم يعلمون عن الحرب ولا يغفلون عن حجم الدمار، لكنهم يريدون مجرد مقاومة الفوضى ويتمسكون في حقهم الطبيعي في طرح الأسئلة، ويحاولون في وسط الركام فهم العالم من جديد أو بناءه من جديد.
المزيد من التساؤلات
يسأل الفيلم مرة أخرى عبر صفحات “كتاب الرمال”، هل كل الكتب قابلة للقراءة؟
هناك كتاب لم يقرأه أحد إلى الآن، مخطوطة “فوينيتش”، وهي كتاب مخطوطات ورسومات غامض، كُتب من قبل مؤلف مجهول بأبجدية مجهولة الهوية وبلغة غير مفهومة، بحسب عينة من أوراق الكتاب، تعود كتابة نصوصه إلى القرن الرابع عشر.
بحسب الفيلم، توصف المخطوطة بأنها أكثر النصوص غموضًا في العالم، فالأوراق ربما تتحدث عن نباتات وأعشاب غير معروفة، ويعتقد المختصون أنها كُتبت برمز سري بقصد عدم فهمها.
وحاول كثير من الناس، وفقًا للفيلم، تطبيق كل الطرق لفك أسرار تلك اللغة، لكن أحرف الكتاب صمدت إلى الآن أمام كل تلك المحاولات لفهم معانيه.
توجد هذه المخطوطة في مكتبة “بينيك” للكتب والمخطوطات النادرة بجامعة “ييل” أقدم معهد للتعليم العالي في الولايات المتحدة، وعُنونت المخطوطة هناك بـ”المخطوطة المشفرة“.
وبنهاية عام 1978، حاول الفنان الإيطالي لوين سيرافيني إثبات أنه بالإمكان وضع كتاب مفبرك شبيه بمخطوطة “فوينيتش” ملمحًا إلى أن الأمر كله مجرد خدعة من الكتاب القدماء.
ولكن علماء اللغة اكتشفوا دقائق وأسرار في ترتيب مخطوطة “فوينيتش”، تثبت أن الجهد المبذول في كتابة تلك الأوراق يتجاوز بكثير مثيله في أي محاولات لتزويرها.
يمكن أن تكون لغة مخطوطة “فوينيتش” بموجب الفيلم، قد كتبت بلغة ماتت ولم يعد لها وجود اليوم.
نصوص مخطوطة “فوينيتش” الغامضة تمد الفيلم بتساؤل أخر، وهو هل من الممكن أن تموت أو تتغير لغة ما خلال بضعة قرون؟ فماذا عن آلاف السنين؟
في ولاية نيومكسيكو في جنوب أمريكا، يقع مدفن “ويب” للنفايات النووية على عمق 600 متر، وفقًا للفيلم، مغطى بطبقة ملحية ستبقى إشعاعات المدفن تنشر السموم لعشرة آلاف سنة مقبلة.
وأراد الخبراء توجيه رسالة للعابرين ألا يمروا فوقه وألا يعبث الفلاحون بتربته، لكن تكمن المشكلة بكيفية التواصل مع كائن سيأتي بعد عشرة آلاف سنة، لأن اللغات يمكن أن تزول مع مرور الوقت وتنقرض، لكن مدفن “ويب” سيبقى.
لذلك شُكلت لجنة مكونة من علماء اللغويات والفيزيائيين وكتاب الخيال العلمي والأنثروبولوجي (علم الإنسان)، هدفها اختيار إشارات تحذيرية مناسبة.
ووفقًا للفيلم، فإن اللجنة يمكن في عام 2020، أن تعتمد لوحة “الصرخة” للرسام النرويجي إدفارت مونك، لأن الصورة هي أكثر وسائل التواصل بدائية، فيعود ويتساءل الفيلم، هل كانت الصور على أعمدة المصريين القديمة تحذيرات؟
لم يعد يخرج أمين المكتبة من المنزل، لأن العالم الخارجي لم يعد يعنيه، فالكتاب الذي بين يديه هو كل العوالم التي غرق فيها تدريجيًا.
–