إبراهيم العلوش
لا تستطيع تعريف القصف وهو ينهال عليك إلا بفعل واحد، هو أن تتلمس جسدك وتتفقد وجود الحياة فيه، بعد الصوت المزلزل لكل قناعاتك في الحياة، ولا حاجة لكي تبدأ بتعريفه لغةً، وتعريفه حربًا، فأجساد جيرانك الممزقة وصيحاتهم تغنيك عن كل التعاريف.
لم يعد القصف عملًا غريبًا علينا نحن السوريين، فقد حلّ في حياتنا منذ ثماني سنوات كفعل غريب ومفاجئ، وكان سلاح المدفعية وسلاح الصواريخ أولى الثمار الجديدة من “جيشنا العقائدي” وهو يستدير على مدننا وقرانا، قبل أن يلتحق سلاح الجو بطائراته الحربية أو بطائرات الهليكوبتر التي برعت بإلقاء البراميل المتفجرة، والتي تعتمد على الحظ في أهدافها مثل دواليب اليانصيب الوطني، يانصيب معرض دمشق الدولي.
عندما يتوقف القصف ولو لليلة واحدة، فإن آثاره تظل تتردد في أنحاء جسدك المبتور عن مكانه وأنت لاجئ في قرية أو في دولة مجاورة، أو حتى ولو بقيت في قبو وتظن أنك آمن، فإن جحافل السيناريوهات المفترضة تمزق حياتك.
انتهاء القصف لا يعني انتهاء كل الخوف، هو بداية جديدة للحزن على من فقدته، والقلق على أطفالك الذين لا تعرف أي منعكس للقصف يحفر في نفوسهم، وكيف يغيّرهم كبشر وكيف يعيد تكوينهم، وأي صيغة ينتهون إلى تبنيها في حياتهم.
تشعر فجأة بالجوع والعطش، فتحمد الله على شعور جديد يداهمك، علّه يخفف ولو قليلًا من الخوف الذي تتكرر صيغته في انقضاض جديد للطيران فوق بيتك، الذي تحول بنظر الطيارين إلى مأوى لـ “الإرهابيين”!
تشعر بأنك مفكك الأوصال، وكأنما الطائرات وقذائف المدفعية تستهدف تفكيك جسدك، لتصبح أنت نفسك قارات متباعدة، رغم أنك لا تزال ملتفًّا بالبطانية التي تغيّر لونها بما تطاير عليها من تراب ومن رماد، ومما لا تدري من أشياء خلّفها القصف الذي انتهى قبل ساعة!
ورغم أنك نجوت وأطفالك مؤقتًا ووصلت أخيرًا إلى خارج منطقة القصف اليومي، فإنك تجد نفسك أمام ظرف غريب وصعب، لا يقل خطورة عن الصمت الذي يسبق انقضاض الطائرات على بيتك، تجد نفسك على حافة العراء في البرية أو تحت الشجر، وعليك أن تترقب العقارب ولحظة الذهاب إلى المرحاض التي لا تجدها إلا ليلًا في البرية.
تتطاير العادات وتتناقص.. فأنت لا تجد الماء للشرب حتى تجده للنظافة، ويفتقد ابنك منشفته التي كانت معلقة في مكانها بالبيت، والتي اعتاد أن ينشّف يديه بها. وتفتقد رفاهية إغلاق الغرفة والبقاء وحيدًا فيها ولو لساعة، فالملجأ الجديد يعيدك إلى حياة بدائية تتشارك فيها الحياة مع كل أصناف البشر، وكل أصناف العقارب، وكل أصناف الإشاعات، وكل المخاوف والآمال في لحظة واحدة، وقد لا تجد رفاهية الصمت إلا في حالات الأرق التي تنتابك آخر الليل، فتستطيع أن تتنفس بعمق، فأنت بعيد عن المشاحنات وعن الأوامر وعن الواجبات وعن لحظة القصف اللعينة.
في الصباح الباكر أنت على موعد مع قصف جديد، إن بقيت متشبثًا بالبقاء في بيتك، أو قد تكون على موعد جديد مع سلطات الأمر الواقع التي ينجبها النزوح، فيأتيك ملتحٍ بخطبة دينية ويهنئك بوصولك إلى حضن شيخه ومجاهديه الأشاوس ويبدأ بإعادة الخطابات البعثية بصيغة دينية.. وأجرك على الله ودخولك الجنة مضمون إن اتبعت معه سلوك الرشاد المبين!
أو قد تأتيك منظمة إغاثة تؤكد لك أن ميزانيتها محدودة جدًا، وأن حجم النزوح الكبير لا يتناسب مع استعداداتها المتواضعة، وتعدك بأنها ستوزع على جميع العائلات كرتونة إغاثة خلال أسبوع من تاريخه، ويلتفت الشاب، متطوع الإغاثة، ويترجم لخبير الإغاثة الأجنبي ما يسأل عنه الناس، فيلوي المسؤولون أعناقهم وأيديهم معربين عن أسفهم بسبب محدودية الإمكانيات.
لكن أخبار القصف سرعان ما تتوارد إليك عبر موت العائلة الفلانية أو تدمير البيت الذي كان على زاوية الشارع الذي فيه بيتك، وتشعر بالسعادة لأنك لم تكن في بيتك تلك اللحظة، ولعلك لن ترجع إليه أبدًا، فيعاود الخوف والحزن غاراتهما المتناوبة عليك، وتبدأ بقلق جديد يُضاف إلى رزمة مخاوفك وحساباتك التي قد تنتهي بالتشرد أو بالموت!
للقصف أعراض جانبية كثيرة أيضًا.. فعبارة “نسورنا الأبطال” التي كنت تسمعها طوال عشرات السنين، صارت تشبه حالات الانقضاض المفاجئ للطيران وما تحمله من نقمة ومن كراهية لكل مسلماتك السابقة التي لم تنتبه إلى أنها كانت مقدمة لهذا الخراب!
كما يخلّف القصف طبقة من السماسرة ومن الدعاة ومن المتسولين، تضاف إلى رزمة مخاوفك وحساباتك ومآلات وجودك في مكان ما في هذا العالم الخالي من القصف اليومي.
ومن مخلّفاته أيضًا أن حالة الذعر من القصف هي المحرك الحقيقي لإعادة هندسة المجتمع سكانيًا وطائفيًا، وفق رغبات الدول والميليشيات والدعاة والمنظمات، الذين تتحول أنت أمامهم إلى منتج من منتجات القصف، يجب الاستفادة منه ومن الإزاحة التي سببها القصف في وجودك، وقد يصل إليك أول سمسار وهو يعرض عليك بيع بيتك الذي لم تمت فيه قبل أسبوع بعُشرِ ثمنه، يدفع ثمنه لك نقدًا لتستطيع العيش برفاهية وأنت مشرد في العراء، أو لتستطيع العبور إلى مخاوف جديدة في نزوح أبعد، أو في لجوء أكثر بعدًا، وهو أضمن لك ولعائلتك ولعقد البيع الذي توقّعه مع المالك الجديد لبيتك.. الربح معك فقد يتم قصف بيتك غدًا ويصبح رمادًا فماذا تستفيد من شظاياه ومن خرابه… ولكنك لا تتذكر في لحظة واحدة إلا مكان منشفة ابنك التي كان يستخدمها قبل القصف بلحظات، لحظات قليلة قبل أن يحوّل القصف حياتك إلى شظايا متناثرة في قلبك وفي عقلك وفي شعورك تجاه هذا العالم الذي يتفرج عليك!