نور عبد النور | أحمد جمال | رهام الأسعد
بين خيام الجيران تتنقل “أم سعدو” بانتظار “الفرج”، بعد أن هدمت مسكنها الإسمنتي الذي كان يؤويها مع ابنتيها وأحفادها، دون أن تجد بديلًا له، ولو كان من خشب وشادر.
يعرف أهالي مخيم “البراء 1” الواقع في منطقة عرسال السيدة نهلا محمد عيّوش باسم “أم سعدو”، ويعرفونها بصبرها، لكنها باتت اليوم “متعبة وفاقدة للأمل”، بعد أن رضخت لقرار إزالة المساكن الإسمنتية ضمن المخيمات السورية في لبنان.
تقول أم سعدو (52 عامًا) لعنب بلدي إنها كانت تريد أن تبقي على خمسة مداميك (صفوف البناء) وفق ما سُمح لها بتركه عند التبليغ بضرورة الهدم، أو كما يطلق عليه رسميًا “إزالة المخالفات”، لكن خطأً في أساسات مسكنها أدى إلى هدمه بالكامل.
تكرر أم سعدو في حديثها لعنب بلدي جملة “لا أعرف ماذا أفعل”، بعد أن خسرت ما خسرته ولم تعد ترى أملًا في المستقبل، وتتابع، “كان لدي في القصير زوج وأولاد وبنات، استشهد الزوج والأولاد وبقيت مع ابنتيّ وأحفادي في لبنان”.
وعلى الرغم من الوعود التي قطعتها بعض المنظمات الإغاثية بتأمين الأخشاب والشوادر لبناء خيمة تقطن فيها بدلًا من مسكنها الإسمنتي، تؤكّد أم سعدو أن ما حصلت عليه لا يكفي لتشييد الخيمة، كما أنها لا تستطيع تأمين عمال لتركيبها.
تشعر أم سعدو بالضيق لأنها مجبرة على قضاء وقتها متنقلة بين الجيران، وذلك لكون خيامهم صغيرة وبالكاد تتسع للعوائل القاطنة فيها، بحسب تعبيرها، إذ اضطر الجيران أيضًا لهدم مساكنهم الإسمنتية وبناء خيام من خشب وشوادر بلاستيكية.
الهدم قدر الجميع
وقوفًا على القرار الذي أصدره المجلس الأعلى للدفاع، التابع لرئاسة الجمهورية اللبنانية في أيار الماضي، والقاضي بهدم جميع الهياكل الإسمنتية التي بناها اللاجئون السوريون في المخيمات غير الرسمية ببلدة عرسال، التقت عنب بلدي مجموعة من الأهالي والناشطين هناك، وسألتهم عن أوضاعهم وأثر القرار عليهم.
فمن الأهالي من استجاب سريعًا للقرار تحت إلحاح إخطارات عناصر الجيش، ومنهم من لا يزال حتى الآن يقاوم.
غادة حسن الشامي، اللاجئة من منطقة القصير في ريف حمص، لم تجرؤ على هدم مسكنها في مخيم “الغيث” بعرسال، وتعلل ذلك بالخوف لكونها أرملة وتعيش مع ابنها لوحدهما.
تقول غادة لعنب بلدي، “لا يوجد من يساعدني في الهدم ولا في التصليح، ولا أجرؤ على النوم في خيمة مصنوعة من الشادر فقط”.
وتواجه غادة إنذارات يومية للهدم، وتحمل تلك الإنذارات “مخاوف من الاستيطان في المنطقة” على حدّ تعبيرها، لكنها ترد عليها بجملة “لو كانت سوريا آمنة لا نبقى هنا ولو لدقيقة”.
لا خيارات
وفّرت مفوضية الأمم المتحدة للاجئين منحًا لأصحاب المساكن الإسمنتية لتعويضهم عقب الهدم، ووفق تعميم للمفوضية حصلت عنب بلدي على نسخة منه، يقوم متطوعوها برصد احتياجات كل عائلة وتقديم عدة إصلاح للمأوى ومساعدات المياه والصرف الصحي وتوفير الاحتياجات الأساسية من فرش وبطانيات.
لكن آلية الحصول على هذا الدعم تتطلب وقتًا ريثما يتم تقييم الاحتياجات، بينما يشتكي بعض اللاجئين من كونها غير كافية.
ونشرت صفحة “صوت اللاجئ في عرسال”، الجمعة 14 من حزيران، بيانًا تحدثت فيه عن “تأخير وتباين بكميات المواد المسلمة بشكل غير متساوٍ وغير عادل في أغلب الأحيان”.
ولا يملك أغلب اللاجئين خيارات أكثر رفاهية، كاستئجار منازل أو خيام جديدة، خاصة بالنسبة للعوائل التي لا تملك معيلًا.
فأم سعدو تحصل على مبلغ 27 دولارًا أمريكيًا شهريًا كمساعدات من مفوضية اللاجئين، بحسب ما تؤكده لعنب بلدي، وكذلك الأمر بالنسبة لابنتها العازبة، وتستخدمان ذلك المبلغ لدفع إيجار الخيمة وفواتير الماء والكهرباء، أما ابنتها الثانية فلا تحصل على أي مبالغ لها أو لأولادها كونها انتقلت من الأردن إلى لبنان قبل عام ولم يتم تسجيلها في المفوضية حتى الآن.
لا تملك أم سعدو خيارات كثيرة، وتشعر بثقل بقائها عند الجيران، بحسب تعبيرها، وليس لديها أمل بالعودة إلى مدينتها، القصير.
وتتقاطع مشاعر الإحباط لديها مع مشاعر الحنين إلى خيمتها الإسمنتية التي تحفظها في صور على هاتفها المحمول، وتُطلع على ركامها من يسألها عن أحوالها.
مساكن اضطرارية تواجه هدمًا إجباريًا..
لماذا أُنشئت الخيام الإسمنتية؟
بدأت فكرة إنشاء المخيمات الإسمنتية مع طول فترة بقاء اللاجئين السوريين في لبنان، وخاصة في المناطق البرية في عرسال بمنطقة البقاع، وهو أمر فرضته العوامل الطبيعية، التي أجبرت اللاجئين على بناء جدران كاملة أو جزئية لخيامهم من أجل درء خطر الحشرات والحيوانات خلال فترة الصيف، أو إبعاد خطر الفيضانات والسيول والثلوج خلال الشتاء.
وتتكون الخيام الإسمنتية من جدران مكونة من “البلوك” وتكون جزئية (نصفية) في بعض الخيام، أو جدرانًا كاملة في بعضها الآخر، كما أن هناك خيامًا مسقوفة بالإسمنت أيضًا وهي خيام يطلق عليها اسم “غرف”، وتعتبر أكثر أمانًا في مواجهة غزارة الأمطار والسيول وفي درء الحرارة العالية في الصيف.
وشهد لبنان موجة لجوء واسعة للسوريين في أواخر عام 2012، تركز معظمهم في منطقة عرسال البقاعية، ليسكن اللاجئون ضمن خيام قماشية قدمتها المنظمات بشكل عاجل، في ظل غياب رؤية لعودتهم إلى بلادهم، ودون تنظيم مساكن تتناسب مع فترة إقامتهم الطويلة غير المتوقعة والتي فاقت ثمانية أعوام في حياة اللجوء.
خصوصية عرسال
مسؤول برنامج الرعاية الصحية في “اتحاد الجمعيات الإغاثية والتنموية” العامل في المنطقة، زياد عزيز، قال في حديث إلى عنب بلدي، إن بناء المخيمات العشوائية أو “المخالفة”، في إشارة للخيام الإسمنتية، جاء لأمور خاصة تتعلق بمنطقة عرسال تحديدًا، وذلك في ظل غياب الدولة عن المنطقة لزمن طويل، إضافة لطول فترة اللجوء وانعدام أي رؤية سياسية تنهي أزمتهم في سوريا ليبدؤوا بالعودة.
ويقدر عدد الخيام في منطقة عرسال بنحو 1500 غرفة حجرية، منها سبعة آلاف خيمة جدران حجرية، ونحو 2500 خيمة مكونة من جدران إسمنتية، وفقًا لزياد.
البرد الشديد هو أحد الأسباب التي دفعت اللاجئين لإنشاء الجدران الإسمنتية لخيامهم في عرسال، كونها أكثر دفئًا ومقاومة للرياح والعواصف الثلجية والمطرية من الخيام القماشية، إلى جانب إحكامها بأبواب ونوافذ تتناسب مع معيشة اللاجئين، بحسب سامر المصري، أحد المتطوعين لدى “مفوضية شؤون اللاجئين” و”لجنة الإنقاذ الدولية بعرسال”.
وأضاف المصري في حديثه لعنب بلدي، “في اللقاءات التي اجتمعنا بها مع مفوضية الأمم المتحدة أو الجيش اللبناني كانت هناك مخاوف لدى الحكومة اللبنانية من طول فترة النزوح وتحولها إلى استيطان وتغيير في البنية السكانية، فكان جوابنا أننا نحترم القانون اللبناني ونؤكد على عدم رغبتنا بالاستيطان فكلنا لديه ممتلكات في بلدنا الذي نعود إليه بعد إيجاد الحل الدولي لسوريا، واقترحنا بدلًا من الهدم كتابة عقود إيجار بين صاحب كل خيمة وصاحب الأرض المشادة عليها”.
اللاجئون مرغمون على التنفيذ
تقدر منظمة “مابس”، عدد المتضررين جراء قرار إزالة خيامهم بنحو 35 ألف لاجئ سوري.
وبحسب مسؤول مدير عام منظمة “مابس”، فادي الحلبي، فإن قسمًا كبيرًا من اللاجئين قابلوا قرار هدم خيامهم الإسمنتية دون اعتراض، بل كانت استجابتهم سريعة خوفًا من أعباء أخرى قد تفرض عليهم، “لكن ما يثير الاستغراب هو أن تفرض السلطات اللبنانية على اللاجئين هدم خيامهم بأيديهم”.
ويضيف الحلبي، “أن يهدم اللاجئ مسكنه بيده، هذا أمر يعكس القهر والذل الذي يعانيه السوري في حياة اللجوء ويكشف الواقع النفسي والاجتماعي المتردي للاجئ”.
ويتابع، “بعض المنظمات الأممية والمحلية عملت على تحوير تلك الأزمة من منطق حقوق وكرامة، إلى مسألة مواد إغاثية بمعنى تعويض اللاجئين ببعض الشودار والخشب كمساكن بديلة، ليتحول اللاجئ بالانشغال بتلك التعويضات البسيطة عن خساراته المتمثلة بمسكنه المهدّم”، بحسب تعبيره.
ويشير المسؤول الإغاثي إلى أن توعية اللاجئين في هذه المرحلة تقع على عاتق “النخبة والإعلام الواعي”، عبر إيجاد سبل لحمايتهم ورعايتهم وإعطائهم الأولوية والاهتمام الكافي من أجل تحسين علاقتهم مع السلطات المحلية ومنع وجود أي إشكاليات بين الطرفين.
“كرفانات” التعليم مهددة أيضًا
في إطار متصل، تتخوف منظمات عاملة في المنطقة من أن يشمل قرار مجلس الدفاع الأعلى إزالة “كرفانات” التعليم الخاصة بالمخيمات.
تلك المخاوف نتجت عن أخبار غير رسمية حول نية السلطات اللبنانية إزالة “الكرفانات التعليمية” من داخل المخميات، رغم أنها متنقلة ومؤقتة وهي عبارة عن مدارس مصغرة، و”صمام أمان للأطفال اللاجئين في المخيمات”، بحسب ما أكده المسؤولَين في “اتحاد الجمعيات الإغاثية والتنموية” ومنظمة “مابس” زياد عزيز، وفادي الحلبي.
وبحسب الحلبي، يصل عددها إلى 50 “كرفان” في منطقة البقاع مخصصة لتعليم نحو ثلاثة آلاف طفل من اللاجئين السوريين.
ويقول الحلبي، “كرفانات الأمل هي رسائل واضحة وصريحة للاجئين بألا يستسلموا بعدم وجود تعليم، وأن المدرسة معكم أين ما كنتم وترافقكم حتى عودتكم إلى بلادكم، وهي أيضًا رسالة الى المجتمع اللبناني بأننا نحن كسوريين ضيوف ولسنا مستقرين وأتينا بسبب ظروف خارجة عن إرادتنا وأن ملف التعليم لا ينتظر وعلينا ألا ننتظر أحدًا”.
تحت ذريعة المخالفات..
قرار هدم “عسكري” مدعوم حكوميًا
في أيار الماضي أصدر المجلس الأعلى للدفاع، التابع لرئاسة الجمهورية اللبنانية، قرارًا بهدم كل الهياكل الإسمنتية التي بناها اللاجئون السوريون في المخيمات غير الرسمية ببلدة عرسال.
القرار يقضي بهدم نحو 1400 خيمة مشيدة من الإسمنت موزعة على 26 مخيمًا في عرسال، عبر إزالة الأسقف والجدران الإسمنتية، بحيث يُسمح بإبقاء جدار على ارتفاع متر واحد فقط تفاديًا لخطر السيول في فصل الشتاء، وفق تصريحات صادرة عن رئيس بلدية عرسال، باسل الحجيري، لوكالة أنباء “الأناضول” في 12 من حزيران الحالي.
وأمهل المجلس الأعلى للدفاع اللاجئين مدة أقصاها حتى 10 من حزيران الحالي، لهدم جميع “الأبنية شبه الدائمة”، قبل أن يمدد المهلة حتى مطلع تموز المقبل، مع إجبار اللاجئين وأصحاب الأراضي على القيام بعمليات الهدم بأنفسهم.
وتذرّعت السلطات بأن تلك الخيام الإسمنتية مخالفة للقوانين المعمول بها في البلاد، إذ يحتاج الأمر لرخصة بناء تمنحها بلدية عرسال، فضلًا عن أن تحول الخيام القماشية لمساكن دائمة يشكل “خطرًا أمنيًا” من ناحية توطين اللاجئين السوريين في تلك الأراضي وبقائهم لفترة طويلة فيها.
ما إن أصدر مجلس الدفاع قراره، حتى أعلنت وزارة الدولة اللبنانية لشؤون النازحين استعدادها الكامل والفوري لتطبيق القرار، إذ نشرت الوزارة تغريدة عبر حسابها الرسمي في “تويتر” جاء فيها على لسان وزير النازحين صالح الغريب: “سيتم تطبيق قرارات مجلس الدفاع الأعلى بشأن النازحين السوريين وسيجري تبيان ذلك في وسائل الإعلام”.
ومن المقرر إزالة جميع الهياكل الإسمنتية في عرسال حتى مطلع شهر تموز المقبل، إذ تم فعليًا إنجاز 70% من أعمال الهدم، بحسب رئيس البلدية، الذي أشار في حديثه لوكالة “الأناضول” إلى أن آلاف السوريين أصبحوا يبيتون في العراء جراء تنفيذ القرار.
مخاوف الاستيطان في الواجهة..
ذرائع خلف ستار القانون
من الناحية القانونية لا يمكن لأي جهة محاسبة ومساءلة السلطات اللبنانية فيما يتعلق بقرار هدم الهياكل الإسمنتية في مخيمات عرسال، إذ إن جميع الأصوات المنددة بقرار الهدم انطلقت من منبر إنساني بحت.
وفي هذا الإطار، تشير المحامية اللبنانية والخبيرة في القانون الدولي الإنساني، ديالا شحادة، إلى أن السماح للاجئين بتحويل الخيام القماشية إلى خيام من “الباطون” والإسمنت أمر يختلف حسب القوانين المعمول بها في بلدان اللجوء حول العالم.
وبالنظر إلى الحال في لبنان، تقول المحامية في حديث لعنب بلدي، إن القانون اللبناني يمنع أي شخص، سواء كان مواطنًا أو مقيمًا أو لاجئًا، من تشييد أي بناء دون الحصول على رخصة من البلديات المعنية.
لكن شحادة نوهت إلى أن معظم الأبنية المشيدة في بلدية عرسال وغيرها من البلديات الحدودية غير مرخصة، إذ إن المواطنين هناك غالبًا ما يبنون المنازل والمحال ويعمّرون طوابق إضافية دون الحصول على رخصة بناء باعتبارها مكلفة جدًا، مشيرة إلى أن هذا الأمر يحصل منذ سنوات وأصبح عرفًا في تلك المناطق التي تعاني ظروفًا اقتصادية صعبة.
ومع ذلك ترى ديالا شحادة، مديرة مركز الدفاع عن الحقوق المدنية في لبنان، أن قرار الهدم ينتهك في بعض جوانبه القانون اللبناني الذي يفرض على البلديات توجيه إنذار للمخالفين قبل هدم أبنيتهم بحيث يبحثون عن مأوى آخر، وهذا ما لم يحصل في عرسال إذ صدر قرار التنفيذ فورًا دون توجيه إنذار للاجئين، ما أدى إلى تشريد عدد كبير منهم، على حد تعبيرها.
ومن ناحية أخرى، ينتهك القرار حقوق المواطنين اللبنانيين من أصحاب الأراضي في عرسال، على اعتبار أن الأراضي التي بنيت عليها الهياكل الإسمنتية ليست أملاكًا عامة، بل هي أملاك خاصة يؤجرها أصحابها للاجئين السوريين، وبالتالي يجب أن يكون هناك تعليل قانوني خطي لتبرير هذا القرار، بحسب شحادة.
وهنا تشير المحامية إلى أن قرار المجلس الأعلى يخفي وراءه مآرب أخرى، هدفها الضغط على اللاجئين السوريين في لبنان تحت ذرائع قانونية “واهية”، واصفة القرار بأنه “جريمة ضد الإنسانية” عبر إجبار اللاجئين على العيش في ظروف “مهينة”، سواء إذا اختاروا البقاء في لبنان أو العودة إلى بلدهم.
بدورها، أثارت جهات حقوقية مسألة عدم أحقية مجلس الدفاع الأعلى بإصدار قرار كهذا، إذ تصدر القرارات المماثلة في العادة عن وزارة الداخلية والبلديات، ما يعطيه صبغة أمنية وعسكرية ترهب اللاجئين السوريين، وفق قول مسؤول “اتحاد الجمعيات الإغاثية والتنموية”، زياد عزيز، لعنب بلدي.
وأضاف زياد لعنب بلدي أنه من الناحية القانونية “لا يحق لمجلس الدفاع الأعلى إصدار مثل هذا القرار الشفهي إلا في حال إعلان حالة الطوارئ، لأن ذلك من صلاحيات وزارة الداخلية والبلديات”.
وهذا ما أكدته المحامية ديالا شحادة، مشيرة إلى وجوب صدور قرار رسمي خطي عن الحكومة اللبنانية، بالاستناد إلى مرجع قانوني، خاصة أن الأراضي أملاك خاصة وليست عامة.
هاجس التوطين.. التجربة الفلسطينية مثالًا
تحوم معظم التصريحات اللبنانية الرسمية، حول مخاوف من توطين اللاجئين السوريين في لبنان تجنبًا لتكرار السيناريو الفلسطيني مجددًا.
إذ كان ولا يزال مخيم “عين الحلوة” للاجئين الفلسطينيين في لبنان هاجسًا يقلق الدولة، حين أنشئ عام 1948 بهدف إيواء نحو 15 ألف لاجئ فلسطيني تم تهجيرهم من قرى الجليل شمالي فلسطين إثر إعلان قيام دولة إسرائيل (النكبة).
ومع مرور السنين تحولت الخيام داخل مخيم عين الحلوة إلى غرف إسمنتية منفصلة ثم أصبحت أبنية بطوابق مرتفعة داخل أزقة وأحياء خرجت بمجملها عن سلطة الدولة اللبنانية وقوانينها، بوجود مسلحين تصنفهم الدولة كـ “إرهابيين خطرين”.
وسبق أن نشر وزير الخارجية اللبناني، جبران باسيل، عام 2017، صورًا لمخيم عين الحلوة في ستينيات القرن الماضي تُظهر وجود خيام قماشية فقط داخله، مطالبًا اللبنانيين بعدم السماح بإقامة أي مخيم على أراضيهم “حفاظًا” على وطنهم.
وتستند الحكومة اللبنانية في مقاربتها بين مخيم عرسال ومخيم عين الحلوة إلى أن مخيمات عرسال أوت مسلحين “متشددين” سابقًا كانوا أطرافًا في النزاع السوري، معتبرة أنهم يشكلون “خطرًا أمنيًا” عليها.
وتعليقًا على ذلك، ترى المحامية اللبنانية ديالا شحادة أن مخاوف التوطين تلك “واهية وبلا فائدة”، على اعتبار أن الجيش اللبناني نفذ عمليتين عسكريتين في جرود عرسال، عامي 2014 و2017، أعلن خلالهما “تطهير” الجرود وخروج جميع المسلحين مع عتادهم وعائلاهم، إذ لم يعد المخيم يضم سوى النساء والأطفال واللاجئين الباحثين عن الأمان، على حد تعبيرها.
وأضافت أن قرار الدولة بهدم الخيام الإسمنتية في عرسال لن يجبر اللاجئين السوريين بالضرورة على العودة إلى بلدهم، خاصة إن كانت العودة تعرضهم للخطر، إذ من الممكن أن ينتقلوا إلى أراضٍ أخرى داخل لبنان يبنون عليها خيامهم.
“ضغط قد يولد العنف”
تتخوف منظمات حقوقية وإنسانية على مصير 35 ألف لاجئ سوري يواجهون خطر التشرد بعد قرار الدولة اللبنانية هدم خيامهم وتنصلها من توفير بدائل لهم.
وهنا برزت علامات استفهام حول الجهة المخولة بتعويضهم عن الضرر الذي لحق بهم، إذ ترى المحامية ديالا شحادة أن الدولة اللبنانية لا تريد توفير مأوى بديلًا لهم، حين غضت الطرف عن حال التشرد الذي أصبحوا عليه.
وأضافت لعنب بلدي أن المسؤولية تقع الآن على مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (UNHCR) والمنظمات الإنسانية والإغاثية العاملة في لبنان، عبر استئجارها أو شرائها أراضي في عرسال وتشييد خيام تؤوي اللاجئين المتضررين داخلها.
لكن المخاوف الأكبر تكمن في تأجج الكراهية بين المجتمع اللاجئ والمجتمع المضيف، وفق ما يرى مسؤول “اتحاد الجمعيات الإسلامية في لبنان”، زياد عزيز، محذرًا في حديثه لعنب بلدي من أن يؤدي الضغط على اللاجئين السوريين إلى تصادم بين المجتمعين، خاصة بوجود حملات إعلامية “تحريضية” ضدهم وتحميلهم مسؤولية تدهور الأوضاع في لبنان.
وكذلك حذرت المحامية ديالا شحادة من أن يولد قرار هدم المخيمات العنف والجريمة في مجتمع اللجوء، بسبب قلة حيلة اللاجئين “المستضعفين” وعدم قدرتهم على العودة إلى سوريا خوفًا من الملاحقات الأمنية.
في سياق التضييق على السوريين..
أزمة الخيام ضمن مساعي الإعادة “الطوعية”
تأتي أزمة هدم المساكن الإسمنتية للاجئين السوريين في المخيمات اللبنانية في ذروة التضييق على اللاجئين، وتقترن بمجموعة من القرارات الحكومية والحملات الإعلامية التي تصب في الخانة ذاتها.
وأدّت تلك الحالة مؤخرًا إلى توتر بين اللاجئين السوريين واللبنانيين، تجلى في أزمة دير الأحمر، التي بدأت في 5 من حزيران الحالي، نتيجة مشكلة بين سكان المخيم الواقع قرب قرية دير الأحمر وعمال دفاع مدني إثر حريق شبّ في الخيام، وانتهت بإغلاق المخيم وإحراق خيامه على يد أهالي القرية.
وعلى الرغم من إلقاء بعض الجهات باللوم على اللاجئين السوريين لاعتدائهم على عنصرين من الدفاع المدني، لكنّ مدير “معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية” التابع للجامعة الأمريكية في بيروت، ناصر ياسين، اعتبر في لقاء سابق مع عنب بلدي أن “ما حدث هو عقاب جماعي تمّ من خلال طرد اللاجئين وحرق خيامهم”.
“منظمة العفو الدولية” استنكرت ما حدث في دير الأحمر، وقالت في بيان أصدرته في 12 من حزيران الحالي، “إن الهجوم يشكّل مثالًا واضحًا على العداء المتصاعد الذي يدفع العديد من اللاجئين إلى مغادرة لبنان والعودة إلى سوريا على الرغم من الانتهاكات المستمرة للقانون الدولي الإنساني هناك”.
إجبار على عودة “طوعية”
بينما تُبرر قرارات إزالة الخيام الإسمنتية بـ “مخاوف استيطانية”، تتصاعد أصوات المسؤولين اللبنانيين بضرورة التسريع في حل ملف اللاجئين عبر إعادتهم إلى بلدهم.
وكانت الدولة اللبنانية بدأت العام الماضي باتخاذ خطواتها لإعادة السوريين، كان أوّلها عبر تنسيق بين الأمن العام اللبناني والنظام السوري.
وقدّر الأمن العام اللبناني عدد السوريين الذين عادوا نتيجة ذلك التنسيق بـ 172 ألفًا و46 لاجئًا، منذ عام 2017 وحتى بداية العام الحالي، بحسب بيان أصدره في 20 من آذار الماضي.
وفي ظل الدعوات الأممية لجعل عودة السوريين من لبنان طوعية وآمنة، كشفت تقارير إعلامية عدّة عن تعرّض سوريين للاعتقال أو القتل عقب عودتهم.
وكان وزير الدولة اللبنانية لشؤون النازحين السابق، معين المرعبي، أبدى تخوفًا على مصير اللاجئين السوريين العائدين إلى سوريا.
وتحدث المرعبي، في مقابلة له مع صحيفة “الحياة” اللندنية، نشرت الجمعة 2 من تشرين الثاني الماضي، عن تسجيل حوادث “طائفية” عدة ارتكبها النظام السوري بحق العائدين من لبنان إلى سوريا، مشيرًا إلى مقتل ثلاثة سوريين عادوا إلى قرية الباروحة في ريف حمص قبل ثمانية أشهر، وتمت تصفيتهم لأسباب “مجهولة”.
وبحسب تقرير نشرته صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية في 2 من أيار الماضي، تعرض الكثير من السوريين العائدين إلى مناطق سيطرة النظام السوري للاستجواب والتحقيق، وأُجبر العديد على التبليغ عن أقربائهم وتعرضوا للتعذيب.
حملات كراهية وأخرى ضدّها
يواجه السوريون في ظل دعوات إعادتهم إلى بلدهم، مجموعة من الإجراءات اللبنانية التي تُسجل في قائمة التضييق، ومنها إغلاق محال للسوريين في نيسان الماضي على يد عناصر الأمن العام اللبناني بحجة عدم حيازة تراخيص عمل.
كما أثار وزير الخارجية اللبناني، جبران باسيل، الجدل مؤخرًا بعد نشره تغريدة على موقع “تويتر” قال فيها، “من الطبيعي أن ندافع عن اليد العاملة اللبنانية بوجه أي يد عاملة أخرى سواء أكانت سورية فلسطينية فرنسية سعودية إيرانية أو أمريكية فاللبناني قبل الكل”، ليواجه اتهامات إثرها بالعنصرية.
وعقب حادثة مخيم دير الأحمر انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي وسوم تحمل شعارات كراهية، مثل “أهلا بالعنصرية” و”أنا أكبر عنصري”، تأييدًا لموقف أهالي القرية ضدّ اللاجئين.
بالمقابل نظّم لبنانيون حملة تحمل عنوان “ضدّ خطاب الكراهية” ردًا على باسيل والدعوات المناهضة لوجود اللاجئين، نشر المشاركون فيها وسمًا يحمل اسم الحملة، ودعوا إلى تخفيف التوتر بين السوريين واللبنانيين، ونظموا وقفة احتجاجية، في 12 من حزيران الحالي، في مدينة بيروت تأكيدًا لموقفهم.
مسؤولية حكومية بحتة.. أم ضغط شعبي
تدعم بعض التصريحات الرسمية اللبنانية التي تتخوف من “استيطان سوري” في لبنان، ردود فعل شعبية مؤيدة تتجلى في منشورات وتعليقات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويدعو ذلك للتساؤل حول ما إذا كانت هذه القرارات الحكومية مدفوعة بضغط شعبي رافض للوجود السوري في لبنان أم لا.
عنب بلدي أجرت استطلاعًا للرأي عبر صفحتها على “فيس بوك”، وطرحت على متابعيها السؤال التالي: “برأيك.. من المسؤول عن قرارات إزالة الخيام الإسمنتية للاجئين السوريين في لبنان؟
78% من المشاركين في الاستطلاع، وبلغ عددهم 1200، اعتبروا أنّ السياسات الحكومية هي التي أنتجت قرار إزالة الخيام، بينما رأى 13% منهم أن الضغط الشعبي هو المحرك لها.
بعض المتفاعلين على منشور الاستطلاع ألقوا باللوم على وزير الخارجية اللبناني، جبران باسيل، في التحريض على السوريين، إذ يرى محمد خير سلّوم أن “خطاب باسيل العنصري” هو السبب في ذلك، ويعتقد عبد الرحمن غنوم أيضًا أن لباسيل مصالح في الضغط على السوريين.
أما هشام يونس فيرى أنّ الحكام اللبنانيين “سيئون” بحق شعبهم، ولا يستغرب أن يكونوا كذلك بالنسبة للسوريين.
بعض المعلّقين أشاروا إلى احتمالية وجود دور لـ “حزب الله” في قرارات التضييق على السوريين، ومنهم محمد المحمد، الذي يعتبر أنّ “شبيحة” الحزب مسؤولون عن تلك القرارات، بينما يعتقد ياسر ملكاني أن “توجه الحكومة السورية” هو المحرك لها.
وبينما رأى أغلب المشاركين في الاستطلاع أن الشعب اللبناني لم يكن له دور في الضغط على الحكومة لاتخاذ قرارات هدم المساكن الإسمنتية، اعتبر بشار نبيل جركس، أنّ مسؤولية هذه القرارات تقع على عاتق الشعب والحكومة معًا.
توتر بين اللاجئين والمجتمع المضيف..
أزمة مركّبة مفاتيحها في لبنان وسوريا
حوار مع الخبير في السياسات العامة واللاجئين زياد الصائغ
طغت تداعيات أزمة السوريين في لبنان على حديث وسائل الإعلام خلال الآونة الأخيرة، وذلك انعكاسًا لتصاعد التوتر بين اللاجئين والمجتمع المضيف إثر الحوادث الأخيرة، بدءًا بقرار إزالة الخيام الإسمنتية، ومرورًا بتصريحات جبران باسيل، إلى حادثة إحراق الخيام قرب قرية دير الأحمر.
لتشخيص أسباب ذلك التصاعد وفي محاولة للوقوف على حلول للتخفيف منه وإنهاء الأزمة، التقت عنب بلدي الخبير في السياسات العامة واللاجئين زياد الصائغ، الذي سعى إلى توضيح بعض النقاط فيما يخصّ المناخ المتوتر الذي يحيط بالوجود السوري في لبنان.
ما أسباب الأزمة؟
يرى الصائغ أن “طول أزمة اللاجئين السوريين ومحدودية الموارد في لبنان أسهما في إنشاء توتر بين اللاجئين وبين المجتمعات المضيفة في ظل تراجع بالمساعدات الدولية”.
ويضيف إلى السببين السابقين أنه “في اللاوعي اللبناني توجد ذاكرة مجروحة من فترة الوصاية السورية على لبنان، وبنفس الوقت يملك اللاجئون السوريون ذاكرة مسدودة الأفق حول إمكانية العودة إلى سوريا أو عدمها في المستقبل”.
أما حول وصول الأزمة إلى مرحلة متقدمة، فيشير الصائغ إلى أن ذلك يعود إلى “استمرار الدكتاتورية والإرهاب في سوريا أولًا”، إضافة إلى “تقصير المجتمع الدولي في إنهاء حالة الحرب في سوريا وتوفير ضمانات للاجئين حول العودة”.
الدولة اللبنانية أيضًا تتحمل جزءًا من المسؤولية، وفق الصائغ، على اعتبار أنها لا تملك “سياسة عامة توازن بين البعد الإنساني والبعد السيادي (الهواجس السيادية اللبنانية)، ودبلوماسية العودة (أي على أي قاعدة تقوم العودة)”.
ونتيجة تقصير المجتمع الدولي وغياب السياسة العامة في لبنان، “هناك لعبة سياسية في لبنان تستخدم الشعبوية والارتجال لتشد قواعدها الانتخابية وتقول إن جميع مشاكل البلد ناجمة عن اللاجئين. ولكن بالمقابل، اللاجئون السوريون أصبح لديهم استسهال لاتهام اللبنانيين بالعنصرية”، من وجهة نظر الصائغ.
هل يمكن تعميم هذا الواقع؟
يصف الخبير زياد الصائغ توتر الجوّ اللبناني تجاه السوريين بأنه “مشحون” ويرفض تبريره بالمطلق، وذلك لكونه “جوًا سياسيًا محددًا ويصوّر على أنه جوّ عام” حسب تعبيره.
ويضيف، “السوريون موجودون منذ عام 2011 في لبنان ويتقاسمون كل شيء معهم وفُتحت أبواب اللبنانيين لهم”.
بالمقابل يعترف الصائغ “بوجود بعض الممارسات الناتجة عن عدم تحمل وجود اللاجئين السوريين والتي تؤدي إلى ارتكاب بعض الأخطاء تجاههم، لكن لا يمكن للاجئ السوري أن يتهم اللبناني بالعنصرية”.
ويتخوف الصائغ من إرباك مضاعف في الوضع، ويبرر ذلك بوجود “تعب لبناني، لأن اللبنانيين ليس لديهم عمل. والسوريون أيضًا في حال تم تطبيق القانون اللبناني عليهم سيضطرون للعمل في قطاعات محددة، وفي هذه الحالة سيكون لدينا لبنانيون دون عمل وسوريون دون عمل”.
في ظل المعطيات المعقدة والمتشابكة.. ما العمل؟
تتوزّع مفاتيح الحل لأزمات اللاجئين السوريين في لبنان بيد الحكومة اللبنانية والنظام السوري، كما يتحمّل المجتمع الدولي دورًا أساسيًا في حلحلة بعض عقدها.
وبحسب الصائغ، يُفترض أن تنجز الدولة اللبنانية “سياسة عامة توازن بين البعد الإنساني والبعد السيادي والبعد الدبلوماسي”.
كما يجب على المجتمع الدولي “أن ينكب على حل أسباب الأزمة التي يلعب النظام السوري دورًا فيها، بدلًا من الانكباب على منح المساعدات الإنسانية فقط”.
ويضيف الصائغ، “يمكن أن يعود ما يعادل 300 ألف لاجئ سوري، أي ما يشكل 24% من إجمالي عدد اللاجئين السوريين، وخاصة من مناطق عكار والبقاع الغربي وعرسال إلى مناطق القلمون والقلمون الغربي والزبداني والقصير، لكن هذه المناطق في سوريا يمسك بها النظام وحليفه حزب الله وبيدهما أن يسهلا عودة هؤلاء الأشخاص إلى مناطقهم، ما يؤدي إلى تخفيف الأعباء عن لبنان ويساعد اللاجئين السوريين على استعادة حياتهم في أرضهم”.
و”بدلًا من الاصطدام بين اللبنانيين والسوريين”، يدعو الصائغ، إلى “عمل مشترك لتأمين ضمانات لعودة اللاجئين انطلاقًا من الضغط على المجتمع الدولي ومن خلاله على النظام السوري”.
كما يعتقد أن على روسيا “لعب دورٍ أفضل من الدور الذي تلعبه حاليًا، لأنها قدمت مبادرة لم توصل إلى نتيجة”.