ماجد المحمد
ما إن أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قراره بسحب قوات بلاده من شمال شرقي سوريا، حتى ثارت زوبعة من التحليلات والتأويلات لفهم الدوافع وراء هذا القرار، فيما بدأ -من ناحية أخرى- طرح فرضيات لما سيؤول إليه المشهد بعد مغادرة تلك القوات. فرغم وجود إرهاصات لهذا القرار من خلال نوايا الأمريكيين تسليم منبج للأتراك ومباحثاتهم الطويلة حول المدينة، أضف إليها تصريحات سابقة غير مرة على لسان ترامب عن احتمال سحب القوات الأمريكية من سوريا، رغم ذلك كان للقرار وقع أشبه بالصدمة على مختلف اللاعبين على حد سواء.
انكشاف السوءات
اعتبرت الوحدات الكردية هذا القرار بمثابة “الخيانة” نظرًا لما كان يشكله الدعم الأمريكي لها من قوة وسند ودعم عسكري ولوجستي، سبب لها انتفاخًا في طموحاتها وتطلعاتها، لدرجة المطالبة بالحكم الذاتي والسعي لقضم إقليم كبير من التراب السوري والاستيلاء على أراضٍ لا تنتهي أبعادها قبل بلوغ شواطئ المتوسط. فقد أدت تغريدة ترامب إلى انكشاف سوءة هذه الكيانات التي انسلخت عن بيئتها الاجتماعية وبعدها التاريخي وفضائها الجغرافي، وراحت تتمدد وتبسط نفوذها حتى على المناطق التي تخلو من مكونها “القومي”؛ ولم تبقِ طريقًا للرجعة، ظنًا منها أن الوقت أكثر ما يكون ملائمًا والفرصة سانحة للانقلاب الاجتماعي والسياسي وإقامة إقليم غرب كردستان، وذلك على حساب الروابط التي جمعت مختلف المكونات الاجتماعية على مر التاريخ.
هذا الانكشاف المفاجئ دفع القوات الكردية للبحث يمينًا ويسارًا عن غطاء وكفيل جديد يعوض غياب الأمريكي، إذ مما لا شك فيه أنهم لم ينالوا الحظوة المطلوبة لدى الأهالي في المناطق التي سيطروا عليها، كما أنهم لم يقدموا النموذج المأمول الذي يحقق نمط حكم مستدام يملك مقومات يمكن البناء عليها لبلورة هيكلية دولة نمطية، حيث تسيطر على مشروعهم وفكرهم وتهيمن على نهجهم فكرة الشد نحو قوميتهم والانحياز لها. هذه الفكرة المحكوم عليها بالفشل -حتمًا- إذا ما أريد تطبيقها وإسقاطها على قومية أخرى؛ وذلك ما تتحمل وزره الأحزاب الكردية المؤدلجة التي تحاول إلحاق باقي مكونات الأكراد، الذين هم أبناء هذا الوطن وجزء من كينونته وتنوعه، بركب نزعتهم القومية.
لا بديل “محلي الصنع”
يتضح جليًا أن المجتمع في مناطق شرق الفرات عاجز عن إنتاج كيان يمكن أن يأخذ زمام المبادرة ويقوم بإدارة تلك الجغرافيا من النواحي المدنية والعسكرية ويكون على قدر تحدي المرحلة. حتى المكون العشائري -الأبرز هنا- لا يمكن أن يؤدي دورًا أكثر من توفير حاضنة اجتماعية لبديل مرتقب مقبول.
ولا شك أن لهذا العجز أسبابه الموضوعية التي تحول دونه. فعلى مدى نصف قرن تم تدجين الشعب بحكم قبضة قوامها الحديد والنار والسطوة الأمنية التي تحاسب على الفكرة قبل ولادتها، وغدا المجتمع منزوع الدسم الإبداعي، وفقد روح المبادرة بعدما سيطرت على عقله الجمعي ولا شعوره فكرة القائد الخالد. أضف إلى ذلك ما حدث من تشوهات فكرية وأيديولوجية وارتدادات وجدانية هزت المجتمع وعصفت بأفراده، ناهيك عن هجرة الفئات المؤثرة وتركهم الساحة للاعبين الوافدين، مكتفين بمراقبة ما يحدث عن بعد، آملين بعودة الاستقرار يومًا ما. كما أنه لا يخفى أن المجتمع الدولي لا يبالي باستقرار سوريا عمومًا ولا المناطق التي ستغادرها أمريكا، فيما يبدو وكأن الأطراف المنخرطة في الأزمة السورية تنتظر حلًا سماويًا ينهي الصراع ويوفر سبلًا ملائمة للخروج منه بعد أن تطورت أحداثه بطريقة درامية جعلت الوصول إلى الحلقة الأخيرة من هذا المسلسل أمرًا عسيرًا.
احتمال ضعيف
من جانبها ترى روسيا، بحسب وزير خارجيتها، ضرورة عودة النظام لهذه المناطق وبسط سيطرته عليها مرة أخرى. وليس هذا مستغربًا، فروسيا تشكل الظهير الأقوى للنظام، واستحواذه على مساحات أكبر سيزيد من رأسمالها المعنوي والعسكري وحتى الاقتصادي، فكيف إذا كان ذلك على حساب التراجع الأمريكي! ويبدو أن هذا الاحتمال ضعيف لأسباب منها أن القوة العددية لجيش النظام لن تكفيه لبسط السيطرة على مساحات لا يستهان بها، وما حققه من “انتصارات” على قوى المعارضة كان بفضل الدعم والمساندة من الميليشيات الشيعية التي حشدتها إيران لنصرته ونصرة مشروعها، وبالتالي لن تسمح أمريكا ولا تركيا بعبور هذه الميليشيات لتلك المناطق، هذا في الوقت الذي يجري فيه الحديث عن استعداد السعودية لإعادة الإعمار الذي يستلزم عدم وجود إيران وتوابعها. ولا يحتمل أن تزج روسيا بجيشها وتتدخل بشكل مباشر وهي التي فضلت دومًا السيطرة وإثبات الفعالية من الجو مع وجود محدود لجنودها في الميادين الساخنة.
في مقابل كل هذا، سوف يعتبر تنازل الكرد وانسحابهم لصالح النظام -أيًا ما كانت التسمية وصيغة التوافق بينهما- رضا وقبولًا رسميًا من جانبهم بما كان عليه وضعهم قبل اندلاع الثورة، وبالتالي تبدد مشروعية الحلم الكردي، وذهاب “تضحيات” السنين الماضية أدراج الرياح. هذا مع التسليم بحقيقة حدوث تفاهمات بين الطرفين يمكن وصفها بأنها موضعية وتكتيكية محدودة تفرضها عليهما حسابات الربح والخسارة مرحليًا.
الحماس التركي والترحيب المحلي
تشير المعطيات السياسية والواقعية إلى احتمالية دخول القوات التركية إلى تلك المناطق وهو ما تؤكده الحشود التركية المتزايدة لقواتها على الحدود السورية، زيادة على التعبئة السياسية والشعبية في الداخل التركي بالدعوة للقضاء على ما تعتبره تركيا منظمات إرهابية تسعى لإقامة دويلة على حدودها الجنوبية تزعزع أمنها واستقرارها. يعزز هذا الاحتمال تجارب التدخل التركي متمثلًا بعمليتي درع الفرات وغصن الزيتون، اللتين مثلتا تجربة يمكن وصفها بالناجحة لقبولها واحتضانها اجتماعيًا، وبما تم إنجازه وتحقيقه خدميًا ومعيشيًا لسكان المنطقة. ولا شك أن غالبية أهالي مناطق شرق الفرات يفضلون تعميم تجربة التدخل التركي وتوسيع نطاقها ريثما يتم الوصول إلى حل سياسي شامل، وتأسيس عقد اجتماعي جديد يعيد لملمة مكونات البلاد والخروج بصيغة وطنية تكفل للجميع العيش بكرامة وتحقق لهم المساواة والمواطنة الحقة.
أخيرًا، يبدو أن هذا القرار المفصلي الذي يتعلق بتلك البقعة الجغرافية من الأرض السورية لن يحدث تغييرًا جوهريًا في مسار الأحداث، وستواصل خريطة توزع النفوذ انزياحاتها وتبدلاتها على المدى القريب على الأقل وربما المتوسط.