الواتساب.. وطن السوريين!

  • 2018/11/25
  • 12:14 ص

إبراهيم العلوش

صار الواتساب هو الحاضن لعواطف السوريين، ولتواصلهم بين بعضهم، وصارت الأرقام فيه هي الشوارع، والساحات، وغرف البيوت، وبلاكينها، وهي ملتقى عشاقها المتباعدين بسبب الحواجز، والقصف، والتهجير.

تتدفق فيه فيديوهات السوريين، وصورهم، وتسجيلاتهم الصوتية، وجملهم مكتوبة بلغة عامية مريحة، ومختصرة، ولكنها لا تناسب إلا الوسط المحلي، أو العائلي الذي يتلقاها بشغف، وخارج اللغة الرسمية التي يصرّ كهنتها على منع تطورها، وعدم منحها الحيوية اللازمة لمعايشة الناس، ويدفعونها إلى تجاهل ابتكاراتهم التعبيرية.

تحول السوريون إلى العيش في الواتساب منذ أن قرر النظام إلغاء التواصل بينهم، عندما نشر حواجز المخابرات في الشوارع، وعلى الطرقات العامة، وسلّم الشوارع والمدن والقرى لحواجز الدفاع الوطني الايراني، ولحزب الله، ومنذ أن لحقتهم داعش والنصرة بحواجزهما، وصارت هذه الحواجز جميعها تؤدي إلى المعتقلات، وإلى التغييب القسري، وفي أحسن الأحوال تؤدي إلى التشليح والإهانة.

تأسست فكرة الواتساب في عام 2009 من قبل الأمريكي بريان أكتون، والأوكراني جان كوم، وكلاهما من الموظفين السابقين في موقع ياهو. وتعتمد فكرة الواتساب على تأمين التواصل بين الناس الذين لا يملكون شبكات إنترنت قوية، فهو ينشر رسائله مهما كانت شبكة الإنترنت ضعيفة، وحتى لو كانت تنقطع وتعود بتخبّط، مثلما هو حالها في معظم أرجاء سوريا. لقد كان مبتكرا الواتساب يقصدان في البداية خدمة الفقراء، وسكان العالم الثالث، الذي تجتهد حكوماته، وأنظمته المخابراتية، بالتضييق على الناس، وعلى أفكارهم، وعلى تواصلهم، وحتى على عواطفهم.

لاقى الواتساب انتشارًا واسعًا في سوريا، واستكمل مع شبكات الاتصالات الأخرى، تحطيم شبكات الهاتف التقليدية، التي تعج بعناصر المخابرات الذين يتجسسون في المقاسم على كلام الناس، وعلى هواجسهم، ويتجسسون على الناشطين، وعلى عواطف الأبناء تجاه أهلهم، وعواطف الزوجات تجاه أزواجهن، الذين اضطرهم عقم الاقتصاد في سوريا الأسد، إلى الهجرة من أجل إعالة أهلهم وعائلاتهم، بينما اقتصاد سوريا صار مخصصًا لإعالة عائلة الأسد، وعائلة مخلوف، وأجهزة المخابرات، والحرس الجمهوري الذي استثمر حتى في الكباريهات وبيوت الدعارة.

وبسبب إقبال الناس في سوريا على الواتساب، أقبلت قوات النظام، وحواجزه، ومخابراته، على استخدامه أيضًا، وصارت تفتش هواتف المارين على الحواجز والموقوفين، وتعاقب كل من يمسح اتصالات الواتساب من هاتفه.

اشترت شركة فيسبوك شركة الواتساب بمليارات الدولارات في عام 2014، وضمتها إلى أسطولها المعلوماتي والخدمي الذي يطمح إلى منافسة عملاق التكنولوجيا والبحث غوغل، وقد ضم الواتساب حتى بداية عام 2017 أكثر من مليار ومئتي مليون مشترك عبر العالم، يتبادلون عبره مليارات الرسائل، والفيديوهات، والتسجيلات الصوتية، والصور، كل يوم.

ومن بين هذه الأعداد الهائلة للتبادل اليومي للرسائل في الواتساب، تجد السوريين، ورسائلهم، والفيديوهات التي تنقل أحوالهم، والكلمات الحزينة التي تعبر عن مشاعرهم، بعدما منعهم النظام من التواصل في بيوتهم، وفي مدنهم، وفي قراهم، وفي كل بلادهم التي سلّم أرضها للإيرانيين، وسماءها للروس، وهواءها للكيماوي، ووسائل إعلامها لعبادة القائد الذي يسكن مع عائلته فوق سقف الوطن، ولا تستحي مواقع النظام الإعلامية من نشر الأكاذيب، ولا من إنكار أعمال القصف، والتعذيب حتى الموت، في وطن الياسمين والتاريخ.. الذي تحول الى وطن منجزات الحركة التصحيحية، والشبيحة، والمخابرات، وميليشيات التعفيش!

هاجر السوريون من أرضهم الى أمواج الشبكات الاجتماعية، وأهمها الواتساب، ولم يعد يمرّ في شوارع سوريا إلا المجبر على عبور حواجز الموت المزينة بصور بشار الأسد، وبوتين، وحسن نصر الله، ثالوث الدمار السوري الممنهج!

ولكن متى يعود السوريون الى أرضهم، ويمشون في طرقات بلادهم، بلا حواجز، وبلا تفتيش، وبلا نفاق يضطرون لابتداعه مع كل حاجز، وحسب الجهة التي يتبع لها، سواء كانت المخابرات، أو الحرس الجمهوري، أو داعش، أو الدفاع الوطني الإيراني، أو النصرة، أو ما تيسر من تجار الحرب الجدد مثل البي كي كي وتوابعهم، أو حواجز التشليح الفردية والعشائرية، أو المذهبية، التي تجني لقمتها من لحم السوريين، ومن كرامتهم.

إلى متى يبقى الواتساب ومالكه الفيس بوك، ووسائل التواصل الإلكترونية الأخرى، هي الملجأ الوحيد للسوريين، متى نستطيع تقبيل أيادي أمهاتنا واقعيًا، وليس عبر فيديو يتم تبادله في الواتساب، أو السكاي بي، أو عبر ترك كلمة محفورة على جدران زنزانة في أقبية المخابرات، علّ أحدًا ما يقرؤها، ويوصلها إلى الأهل، متى تعود سوريا وطنًا للسوريين، وليس للإيرانيين، ولا للروس ولا للأمريكيين، ولا لغيرهم من جيوش وميليشيات الاحتلال.

متى يعود السوريون إلى مدارسهم دون اضطرارهم للنفاق لمغتصب سوريا، وإلى مزارعهم دون حماية من الميليشيات الإيرانية، وإلى معاملهم دون شراكة مع عائلة الأسد ومخلوف وتوابعهم، وإلى سيادتهم الوطنية دون هيمنة الروس وإملاءاتهم الوحشية.. متى يعود السوريون إلى تنفس هواء بلادهم الخالي من الغازات الكيماوية، ومتى يهبط السوريون إلى أرض بلادهم من عالمهم الافتراضي في الواتساب ويستطيعون أن يتقابلوا، وأن يتعاتبوا، وأن يتذكروا، وأن يحضروا حفلة العرس القادمة، وأن يدبكوا فيها مع بعضهم، وليس مشاهدتها فقط عبر الواتساب.

أم علينا البقاء في الواتساب فقط، وابتكار شاراتنا، وأعلامنا، وحياتنا المقددة، في هذا الوطن الإلكتروني الذي يبتلع عواطفنا، وحياتنا المعلقة بأمواج الإنترنت، وبإصدارات الواتساب!

مقالات متعلقة

  1. بؤس الحلول الطائفية
  2. أيها الإيرانيون: لماذا تكرهوننا؟!
  3. قيامة الرقة على مسرح الموت
  4. مفارق الطرق.. السورية

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي