عهد مراد
كنا بانتظار اكتمال الحكاية لنعيد تفسيرها من جديد، ولكن كيف نعيد تفسيرها دون أن نتخلى عن تمسكنا بأرائنا القديمة التي قلناها مرفقة بمفردات “بكل تأكيد، مستحيل، لا يمكن…الخ”. وكيف سنبرر لأصدقائنا الذين حاولوا مرارًا أن يمنعونا من استخدام كلمة مستحيل أننا كنا على حق.
على كل حال، إننا كسوريين نمر بواحدة من أعقد الفترات في الصراع الذي يحمل في داخله توصيفات عدة، فهو ثورة، كما هو حرب، كما هو نزاع أهلي، كما هو كارثة، ولكن لا بأس حتى هذا قد يدخلنا في جدلٍ لن ينتهي إلى مآل على الرغم من تبجح الأكاديمية واعتبار ما تملكه علمًا مقدسًا غير قابل للمس.
أما مرحلة الآن، فهي الأصعب، مرحلة إعادة بناء المواقف وصوغ التفسيرات، مرحلة البحث عن مخرج “فكري” للمأزق، المرحلة التي تحرجنا في اختيار المبررات من أجل الذهاب إلى خطة جديدة، توصيف جديد، وطرح مختلف لمواقفنا، وفي هذا السياق ولكي يجدوا مكانًا لهم في الخارطة الجديدة، وليبرروا إصرارهم السابق بأن الأمور لن تبقى على حالها إذا انتصر النظام، بدأ قسم كبير من السوريين يروجون لخطاب جديد قديم، ولكن استحداثه بقوة الآن يعني رغبة النظام بتكريسه، هذا الخطاب الذي يتحدث عن تيارين سياسيين في السلطة الحاكمة في سوريا، الأول تيار إصلاحي، “يفترض المتحدث عنه ضمنًا دون أن يبوح صراحة بأن الأسد يقوده”، وتيار معطل رجعي مستبد قريب من الأسد ويحاول فرض أجندته، المفارقة هي في أمرين: الأول هو من يسوّق لهذا الخطاب بكثرة، والثاني ما هي تطلعات كل من فريقي السلطة.
من يسوّق لهذا الخطاب هم نفسهم (أو بمعظمهم) الأفراد والجماعات الذين ملؤوا الدنيا تهكمًا على عبارة شهيرة كان يتداولها السوريون، وهي “هو آدمي بس الي حواليه زعران”، كانت هذه العبارة مادة للتندر في سهراتهم ومنشوراتهم ويومياتهم، أما الآن فهم نفسهم أعادوا إنتاجها بغلاف أكثر دبلوماسية وذكاء، وطابع أكثر حيلة ومكرًا، فمعنى التيار الإصلاحي يتوازى تمامًا مع ” أنه آدمي”، وأن هناك من يعطل “هم نفسهم الزعران”، وهذا تمامًا يعني أن من لم يجد للعبارة الأولى جمهورًا وسوقًا، أعاد صياغتها وغلَفها جيدًا ورماها في السوق لتصير بضاعة رائجة على الرغم من أنها لذات المحتوى.
أما من هما التياران فببساطة واختصار، تيار يرى بأنه لا بأس بالعودة إلى الظروف التي كنا فيها قبل 2011 وهذا هو الإصلاحي بالمناسبة، وآخر يعتقد أن “سوريا” انتصرت وعليها أن تعاقب الجميع شعبًا ووسائل إعلام، ولم يعد يهمها أحد، فهو لا يريد أن يسمح لإعلام أن يدخل ولا لمواطن أن يتنفس ولا لمعارض أن يعود.
ما أريد قوله هنا أن التيار الأول “الإصلاحي” هو إصلاحي بالقياس للثاني وليس بالقياس لمفهوم الإصلاح، ثانيًا أن التيار الثاني هو الأصدق والأشجع والأكثر أخلاقًا، نعم أكثر أخلاقًا لأنه لا يكذب ولا يجامل ويقول الحقيقة كما هي، هذه هي هوية هؤلاء، التيار الأول يكذب وسينقلب في أي لحظة ليصبح الوحش الثاني، ولماذا هو يكذب؟ لأنه أكثر حنكة ودهاء وخبرة من التيار الثاني، إنه تيار ماكر لعين، يعرف ما يريد وكيف يأكل لحم أبناء البلد، أما الثاني مراهق لا يفكر لأبعد من أنفه فيستخدم الصدق في السياسة.
وبهذا المعنى نعم هناك تياران في سوريا، تياران واضحان، أحدهما إصلاحي “خطير، داهية وغاية في المكر”، والآخر رجعي ساذج ولكنه مؤذٍ.
أي التيارين ستختار، مع أي منهما تحب أن تنجرف إذا ما وافقت على هذا التحليل للبنية، معه أم مع “الي حواليه”؟ إنها جورة البلاد التي لا خجل فيها هي بلاد الهو والي حواليه وليست بلادنا حتى يثبت العكس.