عنب بلدي – ضياء عودة
شكلت زيارة رئيس النظام السوري، بشار الأسد، إلى موسكو نقطة فارقة في أحداث المشهد السوري، فقد جاءت بعد أيام من محادثات “أستانة9” بين المعارضة والنظام والدول الضامنة، وأعادت الحديث عن اللجنة الدستورية من جديد، بعد أشهر من انتهاء مؤتمر “سوتشي” الذي تطرق إليها، وأكد عليها كحل أساسي لسوريا مستقبلًا.
الزيارة كانت بصورة مفاجئة، ويمكن التأكيد على أهميتها قياسًا باللقاءات الأخرى، كونها تبعت الانتهاء من العمليات العسكرية على الأرض، وتوجه الروس والأتراك إلى التوصل لوقف إطلاق نار شامل في كامل سوريا، وخاصة في محافظة إدلب التي باركت جولة “أستانة9” نشر آخر نقاط المراقبة التركية فيها.
لكن ما تم التركيز عليه في الأيام الماضية حديث بوتين في أثناء لقائه مع الأسد أنه لا بد من سحب “جميع القوات الأجنبية” من سوريا مع تفعيل العملية السياسية.
لم يحدد بوتين القوات الأجنبية بصورة دقيقة، لكن الواقع على الأرض يشير إلى أن بوتين يقصد إيران والأذرع العسكرية التابعة لها في سوريا، ما يفتح الباب أمام خلاف قد يقبل عليه المشهد السياسي بين الدول الحليفة للأسد روسيا وإيران، إذ ترى طهران في اللجنة الدستورية، المقترحة من قبل موسكو، ضررًا كبيرًا بمصالحها، وتحجيمًا لدورها في سوريا المستمر منذ 2011.
ومنذ تدخلها في سوريا عام 2015، حاولت روسيا من خلال جولات سياسية متعددة ترسيخ صورة أنها الجهة الوحيدة المخولة بالمستقبل السياسي للمنطقة، بعيدًا عن الجانب الإيراني الذي دخل في العام الحالي بسلسلة أزمات أبرزها الصدام مع إسرائيل.
في حال بقاء الدستور يعني إبقاء الجمهورية كما هي، والنظام الذي يحكمها، لكن بعد تغييره تدخل الدولة في مرحلة الجمهورية الثانية أي أن سلطة النظام يجب أن تنتهي بموجب الدستور الجديد الذي يعتمد على الانتخابات. |
بانتظار الرد الإيراني
في 31 من كانون الثاني الماضي، اختتم مؤتمر “سوتشي” جلسته، واتفق المشاركون على تشكيل لجنة دستورية من ممثلي النظام السوري والمعارضة لإصلاح الدستور وفقًا لقرار مجلس الأمن الدولي “2254”، كما نص البيان الختامي على “بناء مؤسسات أمنية ومخابرات تحفظ الأمن الوطني، وتخضع لسيادة القانون وتعمل وفقًا للدستور والقانون وتحترم حقوق الإنسان”.
طوال الأشهر الأربعة الماضية لم يتطرق أي طرف سياسي لموضوع اللجنة، إلى أن حدثت الزيارة بين الأسد وبوتين، وقال الأخير إن النجاحات الميدانية أسفرت عن تمهيد “ظروف إضافية ملائمة لإحياء عملية سياسية شاملة الأطر”، مشيرًا إلى أن الأسد “اتخذ قرارًا بإرسال وفد لتشكيل اللجنة الدستورية”، وأن روسيا ترحب بهذا القرار وستؤيده بكل السبل الممكنة، آخذة بعين الاعتبار الاتفاقات التي تم التوصل إليها مؤخرًا.
الأسد أكد السير في طريق اللجنة الدستورية، وقال في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الرسمية (سانا) “اتفقنا الرئيس بوتين وأنا على أن ترسل سورية أسماء مرشحيها إلى هذه اللجنة، للبدء في مناقشة الدستور الحالي في أقرب فرصة”.
وما يمكن ملاحظته فيما سبق، غياب الدور الإيراني في الحديث عن اللجنة الدستورية، بل كان حاضرًا ضمن دعوات للخروج من الأراضي السورية، بعد التوجه من المعارك إلى مرحلة سياسية جديدة أولى خطواتها تعديل الدستور أو صياغة آخر جديد.
ويعتقد المعارض السوري فراس الخالدي أن المرحلة السياسية الجديدة لسوريا لم تظهر ملامحها حتى اليوم، معتبرًا أن نظام الأسد يدرك تمامًا أن أي تقدم في العملية السياسية يعني اقتراب نهاية منظومته الأمنية والعسكرية.
ويقول الخالدي لعنب بلدي إن ما ننتظره حاليًا هو رد فعل محور إيران داخل النظام السوري، وإيران بصورتها العامة أيضًا، والتي تشكل اللجنة الدستورية والمضي فيها خطرًا كبيرًا يهدد مصالحها المدرجة على القوائم الإسرائيلية والأمريكية بشكل خاص.
وحاولت موسكو خلال الزيارة التركيز بشكل أساسي على حديث الأسد حول الاستعداد لإرسال لجنة للأمم المتحدة، رغم أنه لم يجزم الموافقة على تغيير الدستور بل إجراء تعديلات فقط.
ولم يكن بشار الأسد مخيرًا بالحديث أمام بوتين، ووفق مراقبين بدا كأنه في أزمة، إذ يحاول الروس منعه من عدم التهرب والتنصل من العملية السياسية بالاشتراك مع إيران.
الابتعاد عن “شبح” العراق
ويثير الدور الإيراني في العراق مخاوف روسيا، التي تخشى أن تتحول سوريا إلى ساحة كبيرة تحت سلطة النفوذ الإيراني، كما حدث عام 2003 في العراق في أثناء فشل تجربة الولايات المتحدة الأمريكية حينها، بعد فتحها المجال لإيران للقضاء على المقاومة العراقية، لينقلب المشهد ضدها وتثبت الميليشيات الإيرانية قواعدها العسكرية، وصولًا للاستحواذ على الدائرة السياسية.
ومنذ النزاعات الدولية القديمة، عرفت إيران بأنها دولة لا تريد الاستقرار، بل تسعى بشكل مستمر إلى الفوضى والتخريب، من أجل بناء قواعدها التي يستحيل أن تقوم بإنشائها في لحظات الهدوء.
الممارسات الإيرانية طبقت بدقة في سوريا، إذ استغلت إيران الفوضى وعدم الاستقرار الذي شهدته البلاد في الأيام الأولى للثورة السورية، وأنشأت عشرات القواعد العسكرية، والتي غدت أهدافًا رئيسية للجيش الإسرائيلي.
ومن مصلحتها عدم التوصل لوقف إطلاق نار كامل في سوريا، والذي من الممكن أن يحول قواعدها وثكناتها إلى أهداف مكشوفة، ويمنعها من التوسع بها، ويتلخص المسار الذي تسير فيه بأنها تريد دولة طائفية لا دستورية.
وإلى جانب الحديث عن اللجنة الدستورية وتوجه موسكو للمضي فيها، شهد الواقع الميداني تحركات لا يمكن فصلها عن نية الروس تحجيم الدور الإيراني بالتزامن مع خلق مرحلة سياسية جديدة.
في 17 من أيار الحالي انسحبت الميليشيات الإيرانية من بلدة الحاضر إلى جبل عزان في ريف حلب الجنوبي، وسط الحديث عن التجهيز لنشر نقطة مراقبة روسية متقدمة ضمن اتفاق “تخفيف التوتر” المتفق عليه في “أستانة”.
وتعتبر الحاضر من أبرز البلدات شرقي أوتوستراد حلب- دمشق الدولي، وتبعد عنه مسافة عشرة كيلومترات فقط، وتجاور بلدة الزربة ومحطة الانطلاق التي تحتويها، والتي تعتبر الشريان التجاري في الشمال السوري.
وجاء الانسحاب بعد أيام على اختتام الجولة التاسعة من المحادثات بين الدول الضامنة، روسيا وإيران وتركيا، ويعتبر عضو وفد “أستانة”، أيمن العاسمي، أن انسحاب إيران من الحاضر هو ضغط روسي، ضمن الخلاف الذي يدور حاليًا بينهما، عقب الانتهاء من العمليات العسكرية والبدء بتقاسم مناطق النفوذ.
ويشير العاسمي لعنب بلدي إلى رغبة تركية للتعاون مع الروس وبالعكس لوقف إطلاق النار بشكل كامل في سوريا، كون الجانبين يعيان أن إيران تريد الفوضى لإنشاء قواعدها العسكرية.
قال الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، لوسائل إعلام روسية، إن اللقاء بين الأسد وبوتين استمر أكثر من ثلاث ساعات، وفي تعليقه على تصريحات بوتين بأن القوات الأجنبية يجب أن تنسحب من سوريا بعد انطلاق المرحلة النشطة للعملية السياسية فيها، اكتفى بيسكوف بالإشارة إلى أنه “يوجد في الأراضي السورية اليوم عسكريون من دول عدة كقوة أمر واقع في شكل غير شرعي حسب القانون الدولي، والمقصود هو هذه البلدان على وجه الخصوص”.
وأضاف أن عددًا من البلدان تجمعها علاقات تعاون عسكري مع سوريا، مؤكدًا أن “الاتحاد الروسي ذهب إلى هناك بطلب من القيادة السورية ولديه كل الأسس الشرعية للوجود هناك، على عكس بعض الدول الأخرى التي يعد وجودها هناك مخالفًا للقوانين الدولية”.
هدفان لأستانة
وتستحوذ محادثات “أستانة” على المشهد السياسي لسوريا، ورغم أنها أقرب إلى العمليات العسكرية على الأرض، لكنها تحاول الدخول في مضمار القرار السياسي، وأكدت ذلك المخرجات الأخيرة للنسخة التاسعة منها.
وجاء في البيان الختامي أن الدول الضامنة لمسار “أستانة” ستعقد اجتماعها المقبل بمدينة سوتشي الروسية في تموز المقبل، بينما اتفقت على عقد الاجتماع الثالث لمجموعة العمل حول المعتقلين في أنقرة التركية، في حزيران المقبل.
وأشار البيان إلى الاسترشاد بأحكام قرار مجلس الأمن 2254، مؤكدًا على مواصلة الجهود المشتركة التي تهدف إلى تعزيز عملية التسوية السياسية، “من خلال تسهيل تنفيذ توصيات مؤتمر سوتشي”.
كما تم الاتفاق على عقد مشاورات مشتركة مع المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا، ستيفان دي ميستورا، من أجل تهيئة الظروف لتسهيل بدء عمل اللجنة الدستورية في جنيف في أقرب وقت ممكن، والقيام بهذه الاجتماعات على أساس منتظم.
وينطلق العمل بـ “أستانة” من هدفين أساسيين، بحسب العاسمي، الأول هو وجود قوة عسكرية إلى جانب الفصائل في الميدان (تركيا)، والثاني أن إيران لا يمكن أن تقبل بوقف إطلاق النار، لذلك أكدت المحادثات على وقف إطلاق النار خاصة في الشمال السوري.
ويعتبر المعارض السوري أن الظروف تستوجب وقف إطلاق النار لتنظيم البيت الفصائلي، والابتعاد عن الانقسام الذي شهدته الغوطة الشرقية وريف حمص الشمالي، ولا بد من منطقة هادئة للحاضنة الشعبية من جهة والتنظيم العسكري من جهة أخرى.
محاولات تفرد
وخرجت “أستانة9” بالتوصل إلى وقف إطلاق نار شامل في سوريا بعد أربعة أشهر، وخاصة في محافظة إدلب التي ترسمت حدودها بـ 12 نقطة مراقبة، وأكدت على حماية مناطق “تخفيف التوتر” المتفق عليها.
ويحاول الوفد المعارض الذي يخوض المحادثات الوصول إلى الثلث المحدد للمعارضة السورية لاختيار اللجنة التي ستشارك في صياغة الدستور، بعيدًا عن بقية المنصات السياسية، وأبرزها منصتا موسكو والقاهرة.
وفي أثناء مؤتمر “سوتشي” توافق القائمون عليه على طريقة اختيار اللجنة الدستورية، إذ تتشكل من النظام السوري والمعارضة والأمم المتحدة، بحيث تكون مشاركة كل طرف الثلث.
ويوضح العاسمي أن وفد “أستانة” مهمته الحالية تشكيل وفد اللجنة الدستورية، وله أحقية في ذلك، مشيرًا إلى أن اللجنة الدستورية ستكون بمناقشة بين تركيا ووفد أستانة.
وكان البيان الختامي لسوتشي أدرج أسماء شخصيات من المعارضة السورية ضمن قائمة “اللجنة الدستورية”، التي ستتولى صياغة دستور جديد لسوريا، بينهم العميد أحمد بري، العقيد هيثم عفيسي، المقدم فارس بيوش، الرائد ياسر عبد الرحيم، المعارض أيمن العاسمي، إلى جانب القيادي في “الجيش الحر” فهيم عيسى، ورئيس وفد “أستانة” أحمد طعمة، ضمن قائمة مؤلفة من 168 اسمًا، على أن يتم اختيار 45 شخصية لتشكيل اللجنة الدستورية النهائية.
ويندرج أغلبية المعارضين المذكورين في محادثات “أستانة”، وبحسب العاسمي، لم يحسم وفد أستانة قراره بالذهاب إلى “سوتشي” في تموز المقبل، إذ يعتمد الأمر على النقاش مع الأتراك والوقوف على النقاط المشتركة سواء موضوع المعتقلين أو الالتزام بوقف إطلاق النار على الجانب الآخر.
الصدام مع إسرائيل يستمر
لا يمكن فصل التحركات السياسية عن الصدام العسكري الإسرائيلي- الإيراني الذي تستمر تداعياته وتبعاته حتى اليوم.
وتقاطعت مصالح روسيا وإيران طوال السنوات الماضية من الحرب السورية، فالداعم على الأرض مشترك هو النظام السوري ورئيسه، بشار الأسد، والعدو هي الفصائل العسكرية المعارضة، وشكل الطرفان حلفًا أدار العمليات العسكرية على الأرض، وكان له دور كبير في استعادة مساحات واسعة ليد النظام، ولم يقتصر الأمر على المعارك بل رافقه خوض مشترك في الميدان السياسي.
لكن بعد سبع سنوات اختلف المشهد، فروسيا التزمت الحياد مؤخرًا إزاء الضربات الإسرائيلية على إيران في سوريا، وأعلنت أنها لن تتدخل إلى جانب أي طرف، لتتبع حاليًا خطة جديدة ترتبط بالمسار السياسي الذي ترفضه إيران وتتنصل منه.
ومنذ أواخر العام الماضي تحولت سوريا إلى مسرح للطائرات الإسرائيلية والصواريخ مجهولة المصدر التي تستهدف بشكل متكرر مناطق عسكرية تابعة للنظام السوري وإيران و”حزب الله” اللبناني.
وازدادت وتيرة الضربات العسكرية، وإن كانت مجهولة ولا يتبناها أحد لكنها تحمل طابعًا إسرائيليًا، تزامنًا مع التصعيد المتزايد بين تل أبيب وإيران على الأراضي السورية، وتهديد إسرائيل بشكل مستمر بتقويض النفوذ الإيراني، وعدم السماح لها بإنشاء قواعد عسكرية في المنطقة.
وفي 9 من كانون الثاني الماضي أعلنت “القيادة العامة” لقوات الأسد أن قواتها الدفاعية تصدت لهجوم صاروخي إسرائيلي، على مواقع عسكرية بمنطقة القطيفة بريف دمشق.
عقب ذلك وفي السابع من شباط أعلن النظام مجددًا تصديه لعدة صواريخ استهدفت أحد المواقع العسكرية في ريف دمشق، من داخل الأراضي اللبنانية، مشيرًا إلى أن وسائط الدفاع الجوي تصدت لها ودمرت معظم الصواريخ.
في شهر نيسان تزايد مؤشر الضربات، إذ قالت وزارة الدفاع في حكومة النظام إن غارات جوية استهدفت مطار “تي فور” العسكري في ريف حمص، ما أدى إلى وقوع قتلى وجرحى.
ولم تؤكد إسرائيل مسؤوليتها، لكن وزارة الدفاع الروسية أكدت أن طائرتين إسرائيليتين من طراز “F15” هاجمتا المطار من الأجواء اللبنانية.
العاشر من أيار الحالي شهد قصفًا إسرائيليًا على مواقع إيرانية اعتبر الأكبر منذ 45 عامًا، وطال معظم قواعد الجنوب السوري وصولًا إلى ريف دمشق الشرقي، وذلك ردًا على قصف لـ “الحرس الثوري” الإيراني على الجولان المحتل.