لن يصمد العمل العسكري الاستعراضي الذي نفذه الاميركيون والفرنسيون والبريطانيون ضد المباني الفارغة لمراكز ومعامل إنتاج وتخزين السلاح الكيميائي السوري، فجر السبت، في صدارة الاحداث سوى بضعة أيام، يسقط بعدها من الذاكرة، ويصبح من شبه المستحيل أن يتمكن أحد من توظيفه أو إستثماره في أي مجال سياسي، أو في أي مسار تفاوضي.
هو كأي إستعراض عسكري، تنظمه الحكومات والجيوش: غرضه معنوي ونفسي، وهدفه كسب الجمهور المحلي أكثر من ردع العدو الخارجي. وكاد يبدو مثل إختبار لجهوزية الجيش الاميركي وقدرته على تنفيذ طلب الرئيس دونالد ترامب قبل أسابيع، من المؤسسة العسكرية الاميركية، تنظيم عرض عسكري سنوي في واشنطن،على غرار العروض التي تتباهى بها دول كبرى مثل روسيا والصين وفرنسا وغيرها في أعيادها الوطنية.
كان العمل العسكري الأخير ضد سوريا أقرب الى العبث:حبس العالم أنفاسه لساعات، تسلل الخوف من حرب عالمية ثالثة، بل حتى من إمكان اللجوء الى السلاح النووي، قبل ان يتبين ان العسكر الاميركي والفرنسي والبريطاني نفذ غارات جوية وصاروخية متقنة، فقط من أجل أن يحفظ ماء وجه زعمائه السياسيين في واشنطن وباريس ولندن، الذين تسرعوا في التعبير عن غضبهم من المذبحة الكيميائية الأخيرة التي نفذها النظام السوري في مدينة دوما في السابع من هذا الشهر..والتي كانت قد سبقتها اربعة هجمات كيميائية محدودة على المدينة نفسها.
لم يكن بإمكان ترامب أن يتراجع كما فعل سلفه باراك اوباما، ولم يكن لديه أفكار او حتى فرص لكي يتجاوز ما فعله العام الماضي عندما أمر بضرب مطار الشعيرات إثر مذبحة خان شيخون. ولم يكن لدى المؤسسة العسكرية الاميركية سوى ان تحافظ على هيبة الرئاسة ومكانتها، لا على شخص الرئيس أو إسمه. نفذت العرض العسكري المنظم بدقة، من دون ان تغضب أحداً ومن دون ان تتحدى أحداً..وبعد أن ابلغت الجميع بمن فيهم النظام السوري نفسه بالموعد والمسار والهدف، الذي كان عبارة عن هياكل إسمنتية خاوية، تشبه تلك التي تستخدمها الجيوش عادة في مناوراتها التدريبية بالذخيرة الحية.
كانت المشاركة الحماسية الفرنسية والمساهمة البريطانية المترددة تندرج في هذا السياق: لم يكن أحد في باريس أو لندن يعرف لماذا أختار ترامب مجزرة دوما الاخيرة للرد، وليس مثلا المجزرة الثانية او الثالثة، ولم يكن أحد يدري ماذا بعد هذا العرض العسكري الحرج، الذي لا يستهدف حتى تأديب النظام السوري ولا ترهيب إيران ولا طبعا تحدي الكرملين.. لكنه كان عبارة عن حملة علاقات عامة مبنية على يقظة ضمير غربية متأخرة جدا، لا يمكن ان تخدع الجمهور الاميركي او الفرنسي او البريطاني لأكثر من بضعة أيام.
التحليلات التي تتطاير في الاجواء هذه الساعات والايام حول خلفيات العمل العسكري الثلاثي ومعانيه والاهداف التي حققها تثير السخرية فعلا. ثمة أزمة فعلية في العلاقات الاميركية الروسية، وفي العلاقات الغربية الروسية عموماً. لكن إستخدام الطائرات الحربية والصواريخ المجنحة، ضد أهداف سورية معزولة وغير ذات قيمة عسكرية، وتحليقها على مقربة من مواقع عسكرية روسية مهمة، لا يقدم الدليل على ان تلك الازمة كانت على وشك الانفجار. لعل العكس هو الصحيح. فالمرجح ان يؤدي العرض العسكري الذي تفرج عليه الروس بعدما تلقوا معلومات مفصلة عن الغرض منه، الى توسيع قنوات الاتصال التي فتحت طوال الايام الماضية، بين واشنطن وموسكو، وقد تسفر عن تحديد موعد لاجتماع قمة لا يخلو من الطرافة وربما الود بين ترامب وبوتين.
خلال أيام قليلة او حتى ساعات، سيثبت بوتين وخامنئي والاسد أنهم إستمتعوا بالعرض العسكري الثلاثي، الذي لم يهدف في الاصل الى إخافتهم أو الى وقف غيّهم. المؤكد أن أحداً منهم لن يرتدع ولن يتردد حتى في إستخدام السلاح الكيميائي مجددا حينما تطرأ الحاجة الى خنق السوريين وترهيب مسلحيهم. والجبهات التي ستفتح في الفترة المقبلة، ستقدم الدليل على ان مسار الحرب في سوريا لم يتغير ولم يتبدل قيد أنملة. ولن يبقى من ذكرى فجر الرابع عشر من نيسان إبريل، سوى بعض الفيديوهات والصور لواحد من أسخف العروض العسكرية الغربية.