عنب بلدي – علي بهلول
“عمّي إذا في مجال تطمن على خالتي وولادها، بعد الحاجز ما عاد في اتصال معن”، بهذه الكلمات أشار شاب في جامعة دمشق لأحد أقربائه عبر الهاتف لاحتمال اختفاء عائلة كاملة أثناء عبورهم من الريف إلى العاصمة، من أجل تقدم أبناء خالته إلى المفاضلة العامة سنة 2013.
سمعت الكلمات التي خرجت من فمه مخنوقة وخائفة، مع إنهائه للمكالمة بعجز واضح، فلا أمل تقريبًا من التجرّؤ على الاقتراب من الحاجز على أطراف دمشق، بعدما كثرت حالات الاعتقال التي مرّت بتجارب شبيهة حينها، إلى أن وصل عدد المختفين اليوم إلى أكثر من 85 ألف مدني، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
أمهات وآباء فقدوا أبناءهم إما بمداهمات عشوائية، أو بعد اعتقالهم على حاجز ما، وغالبًا ما يكون السبب انتماءهم لمناطق معينة، ثائرة على نظام الأسد.
“نريد أن نعرف إن كان ميتًا حتى ندفنه، أم حيًا لننتظر، فقط نريد أن نفهم وضعه، لا أن يخرجوه”، تقول إحدى الأمهات التي اختفى ابنها.
ورفض النظام السوري خلال السنوات السبع الماضية الاعتراف بارتكابه لجرائم إخفاء قسري، فضلًا عن عمليات التعذيب والإعدام التي طالت عشرات الآلاف من المعتقلين لديه، والمصنفين بحكم المختفين قسرًا، كون عائلاتهم لا تعرف أي معلومة عنهم.
يروي معتقلون سابقون نجوا من أقبية المخابرات الأساليب التي يتبعها النظام في محو أي أثر لهم، وأهمها تسجيلهم بأسماء وهمية وأرقام، بحيث لا تتمكن أي لجنة تحقيق دولية، إذا ما قُدر لها النجاح في الوصول إلى هذه السجون، من العثور على الأشخاص الذين تطالب عائلاتهم بهم.
“تركي صار بفرع المخابرات العسكرية، بعدما خلص تحقيق”، هذه آخر معلومة وصلت عن شاب من دير الزور جرى اعتقاله في ريف دمشق، بعد نزوحه من المحافظة المنكوبة. لكن والده السبعيني لم يتعب خلال ثلاث سنوات من التوجه كل يوم صباحًا إلى المحاكم، وأبواب السماسرة والمسؤولين بحثًا عن ابنه، إلا أنه لم يحصل على أي جواب رسمي يؤكد له فقط مكان وجود ابنه، وليس وضعه الصحي أو سبب اختفائه.
المفاجأة أن المعلومات التي انقطعت بعد أقل من عام على اختفاء تركي، عادت عبر عدة شباب كلّ منهم كان معتقلًا في فرع أمني مختلف تطمئن الأب، أن تركي كان معهم، “يمكن ما بقي فرع ما فات عليه، ولا واحد منهم رضيان يقلي وين صارت أراضيه”، يقول “أبو تركي”.
لم يتوقف الأمر على مناطق سيطرة النظام، فالغوطة الشرقية التي كانت في يوم من الأيام ملجأ للفارين من النظام، فقدت عددًا من أبنائها بشكل مفاجئ، ودون أي معلومة توضح مصيرهم، والخاطفون هذه المرة هم فصائل المعارضة.
مظاهرات عدّة شهدتها بلدات الغوطة تطالب “جيش الإسلام” والفصائل الأخرى، بمحاكمة المعتقلين والكشف عن مصيرهم.
“نحن جبهة النصرة ابنك معنا”، اتصال هاتفي سريع لوالد “همام” المختفي منذ 2014، دون أي تفصيل آخر.
وما هي إلا عامان حتى يصل الخبر الصادم لوالدته: “ابنك في سجن صيدنايا”. ولم تتمكن العائلة حتى الآن من التأكد من الجهة التي اختطفت ابنها، هل هو مع النظام أم المعارضة.
لكن الإشاعات تقول، وبهمس شديد بحيث لا يسمع هذا الكلام إلا أهالي المختفين، أن عمليات تبادل أسرى ومعتقلين بين فصائل النظام والمعارضة، تحكم على المخطوفين بتنقل أبدي بين أيدي المسلحين، الذين لا نعرف على وجه التأكيد هدفهم من عمليات التبادل هذه، ولا طرق إدراج الأسماء فيها.
ويستغل النظام السوري صفقات التبادل هذه، التي تركّز على “الكم”، باعتقال أناسٍ جدد ثم الإفراج عنهم بموجب الاتفاق مع فصائل المعارضة.
ترى ما مصير مطالبة “هيومن رايتس ووتش”، وتوصياتها الشديدة للقائمين على محادثات السلام حول سوريا، لتشكيل لجنة تحقيق بصلاحيات واسعة، لإنهاء قضية المختفين قسرًا والمقابر الجماعية في البلاد، في ظل استخدام أساليب شديدة التعقيد، بحيث قد يكون الجناة أنفسهم قد فقدوا الكثير من المعلومات المهمة حول مصير ضحاياهم.
بمناسبة اليوم العالمي للمختفين قسرًا الذي يصادف 30 آب من كل عام، تصاعدت عدة أصوات حول العالم للمطالبة بالكشف عن مصير المفقودين في سوريا، لا سيما في مناطق النظام، ولا أرقام دقيقة تستطيع أن تكشف عددهم في الحقيقة، لكن من المؤكد أن ذويهم وأصدقاءهم وأحباءهم يتمنون لو يكون كل يوم هو يومًا عالميًا للمختفين قسرًا، علّ معلومة صغيرة، ولو كانت تأكيدًا لمقتل أحد أبنائهم، تريح قلوبهم التي تعيش منذ سنوات في حالة عمى كلي عن الحقيقة.
مطالب بهيئة مستقلة للتحقيق بوقائع “الاختفاء” في سورياطالبت منظمة “هيومن رايتس ووتش” بهيئة مستقلة قوية الصلاحيات للتحقيق في وقائع “الاختفاء” في سوريا. وفي بيان للمنظمة، نشر في 30 آب، بالتزامن مع اليوم الدولي لضحايا الاختفاء القسري، قالت إنه يجب فورًا تشكيل مؤسسة مستقلة مسؤولة عن التحقيق في مصير وأماكن المختفين، والتوصل إلى رفات المجهولين والمقابر الجماعية في سوريا. وأكدت أنه “يجب أن يكون لها ولاية واسعة تسمح لها بالتحقيق، بما يشمل استعراض جميع السجلات الرسمية ومقابلة أي مسؤول، وأن تكون مدعومة دوليًا، سواء سياسيًا أو ماديًا”. وتوصلت “لجنة الأمم المتحدة للتحقيق المعنية بسوريا” إلى تفشي استخدام حكومة النظام السوري للإخفاء القسري، وأنه قد يرقى لـ “جريمة ضد الإنسانية”. وقالت سارة ليا ويتسن، مديرة قسم الشرق الأوسط في “هيومن رايتس ووتش”، إن سوريا “لن تتمكن من المضي قدمًا إذا أخفقت المفاوضات في التصدي بالقدر المناسب لفظائع الاحتجاز والاختفاء. يجب عدم تجاهل هذا الأمر، كل يوم يمر يُرجح أن يشهد المزيد من التعذيب والإعدام للمختفين”. ولا يمكن تحديد عدد المختفين في سوريا بدقة لأن الغالبية العظمى من مراكز الاحتجاز مغلقة في وجه الأطراف الخارجية، بحسب المنظمة، وعادة ما يُحتجز المعتقلون من قبل أجهزة الأمن الحكومية والعديد من الجماعات المسلحة غير الحكومية في سوريا، بمعزل عن العالم الخارجي. وتوثق “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” أكثر من 65 ألف شخص قد اختفوا قسرًا أو اختُطفوا في سوريا منذ 2011، الغالبية العظمى منهم على يد قوات حكومية وميليشيات موالية للحكومة. إلا أنها تقول إن عدد المختفين والمعتقلين قد يفوق هذا الرقم بكثير. وطالبت “هيومن رايتس ووتش” الداعمين الدوليين للعمليات السياسية المزمعة في أستانة وجنيف بضمان التصدي بشكل مستفيض لقضية المحتجزين والمختفين خلال المفاوضات. وأكدت أنه على روسيا وإيران، أبرز داعمي النظام السوري، الضغط على الحكومة لتنشر فورًا أسماء جميع الأفراد المتوفين في مراكز الاحتجاز، وأن تُخطِر أهالي المتوفين وتعيد رفاتهم إليهم. كما هو الحال عند الدول الداعمة للجماعات المسلحة غير الحكومية، مثل تركيا والسعودية والولايات المتحدة، التي يجب عليها إلزام هذه الجماعات بالكشف عن مصير المحتجزين لديها. وطالبت المنظمة مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا، ستيفان دي ميستورا، أن يتحدث علنًا عن أسباب عدم إحراز تقدم في ملف المختفين، ويعزز جهود التصدي لهذه المشكلة المُدمرة. ويُعرف الاختفاء القسري في القانون الدولي بصفته توقيف أو احتجاز لشخص من قبل مسؤولين حكوميين أو أعوان لهم، ثم رفض الاعتراف بالتوقيف أو الكشف عن مصير الشخص أو مكانه. |