سارتر وثمرة الالتزام

  • 2017/04/10
  • 3:20 م
الأديب والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1905 - 1980)

الأديب والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1905 - 1980)

هيڤا نبي

السؤال الأشهر الذي يُطرح عادة في كل دراسة تتناول أديبًا أو كاتبًا مضت سنوات على رحيله أو على زوال معطيات حقبته، هو جدوى إعادة دراسته في الوقت الراهن.

الجدوى. لا نستطيع تقبل التكلم عن شيء دون التفكير في الجدوى. يمكننا بطبيعة الحال إيجاد الجدوى دائمًا في مجال الأدب، لأنه مهما غاص في تفاصيل عصر ما فإن التمركز الأساسي للأدب يدور حول الإنسان ولا يتوقف عن كشفه وإعادة كشفه. لكن إذا تعلق الأمر بالأدب الملتزم فإن سؤال الجدوى يأخذ جدية أكبر، خاصة إذا تَقولب الأدب في فكرة الالتزام بحد ذاتها أو تَكشّفت كضرورة تفرض نفسها مقابل حرية العمل الأدبي.

كثيرًا ما قد نسمع أن الأديب الفرنسي جان بول سارتر ليس كاتبًا على الموضة (démodé)، لأسباب كثيرة تتعلق بفلسفته وبأدبه. ففي الفلسفة أسس سارتر لكل ما يمكن أن يحول فلسفته إلى شيء قابل للمحو، وذلك بجعل الوجودية موضة العصر. كانت البداية الفلسفية له قد انطلقت أثناء لقائه بصديقه ريمون آرون في مقهي في مونبارناس عام 1933، فقد قال هذا القادم توًا من ألمانيا مشيرًا إلى كأس الكوكتيل بالمشمش الموضوع أمامهما: “ترى يا صديقي. إن كنت فينومينولوجيًا تستطيع أن تتكلم عن الكوكتيل وتكون هذه فلسفة بحد ذاتها”. كان هذا بالذات ما يبحث سارتر عنه: الحديث عن الأشياء كما يراها ويلمسها. انطلق سارتر بعدها إلى برلين، حيث تعرف على هوسرل وكتب بعدها أعماله الفلسفية، ومنها المقال الجميل في الفينومولوجيا بعنوان «Une idée fondamentale de la phénoménologie: L’intentionnalité»  

كتب سارتر بعدها عمله الفلسفي العميق “الوجود والعدم”، ولكن الوجودية لم تظهر باسمها المعروف لنا قبل ذلك الحين، بل ظهرت وانتشرت انطلاقا من المحاضرة التي ألقاها سارتر وسط حشد كبير في 1945، والتي تحولت إلى الكتاب الوجودي الأساسي بعدها: “الوجودية فلسفة إنسانية”. أدرات الفلسفة (الوجودية) بواسطة سارتر بالفعل وجهها نحو الإنسان، بل أكثر من ذلك نحو الحياة العادية للناس العاديين وهبطت إلى شارع مونبارناس والشوارع الباريسية ولم تتلكأ في أن تتحول إلى موضة، كان لزامًا عليها أن تنتهي بانتهاء موجة الموضة التي لها زمن يحددها على الدوام.

أما في الأدب فإن الخط الملتزم الذي تبناه سارتر في الالتزام تجاه قضايا العصر، والذي شرحه سارتر في كتابه “ما هو الأدب؟” أفقد أدبه، حسب بعض المختصين، حركته ومرونته، التي يمكن أن تتناسب مع كل عصر وذوق. وفي الحقيقة فإن سارتر لم يتوان، خاصة بعد تجربة الأسر، عن إعطاء القيمة للأديب على حسب التزامه بعصره، وبرهن في أعماله الأدبية، وخاصة المسرح، عن عمق أفكاره حول كيفية تناول الأدب للقضايا العصرية وتقويلها قولًا نافعًا لمعاصريه. وبالنسبة له كانت جدة ورداءة الأدب تعتمد على العصر الذي نشأت فيه، فما إن ينقضي العصر حتى يتحول العمل الأدبي إلى رسالة لاعلاقة لها بالجودة والرداءة التي مثلتها في عصرها. وهذا هو بالضبط ما تعرض له أدبه في حياته وبعد مماته.

هذه العوامل وغيرها، من مثل إقحام الفكر الفلسفي في السرد الروائي وتفضيل الجانب السياسي والايديولوجي على الجانب الجمالي (خاصة في المسرح على حد قول جون ايرلاند)، كانت من العوامل الأبرز التي أسهمت بدرجة كبيرة في طي أدب سارتر، رغم الشهرة منقطعة النظير لرواياته في آنها، وكذلك الإقبال الكبير على مسرحياته العميقة والهادفة، كمسرحية الذباب وموتى بلا قبور ورائعته الأيدي القذرة.

مأزق الالتزام لم يكن أقل تأثيرًا على سارتر منه على شخصياته الروائية، لكن الأمر بالنسبة لها كان متعلقًا بدمج معايير الفيلسوف والسياسي والأديب مع بعضهما البعض وتجسيدها في عمل يوحي بالالتزام نحو قضايا العصر. تلك الأزمة بدأت مع روايته “دروب الحرية”، وقد قضت بطريقة ما على متانة الثلاثية وحالت دون إنهائها، إذ توقف سارتر عنها نهائيًا بعد كتابة قسم من الجزء الرابع.

في هذه الثلاثية الشهيرة “دروب الحرية” (رباعية غير مكتملة) التي ظهرت أجزاؤها بين أعوام 1945-1949، والتي اختار لها سارتر منذ البداية “الحرية” كفكرة وموضوع ، وقع سارتر في مأزق الالتزام أمام بطله المتحرر من كل القيود الفكرية والاجتماعية، فقبل الشروع بكتابة روايته تلك في تموز 1938 كان سارتر قد كتب إلى صديقته سيمون دو بوفوار أنه وجد موضوع وفكرة روايته الجديدة، ألا وهي الحرية، واضعًا كوسمة لها مقولته: “الأسى هو أننا أحرار”.

ولكن بدا فيما بعد أن هذه الحرية التي انطلق منها سارتر كانت بحد ذاتها تحمل له الهدف والنصر. فبعد كتابة ثلاثة أجزاء طويلة (نحو 1180 صفحة في الطبعة الفرنسية) لم يتمكن سارتر من إعطاء مفهوم الحرية التي أرادها شكلًا محددًا، أو متجانسًا مع الأفكار الأخرى التي وضعها قيد الدراسة في عمله. من المؤكد أن تطورات حياة شخصياته وتصادمها بالواقع السياسي المتغير بسرعة وانفلاتها من تحت حتمية الاختيارات في زمن الإختيارات الصعبة هو ما جعل مفهوم الحرية فضفاضًا، وجعل التكيف مع الواقع المجرد لشخصياته أمرًا صعبًا للغاية، إلا أن هناك سبب آخر أهم، وهو أن سارتر نفسه لم يعرف ماذا يريد بهذه الحرية (على المستوى الروائي)، وإلى أين يُمكنها أن تُوصل أبطاله في ظل الالتزام الذي توجب عليهم الامتثال له.

ما جعل مفهوم الحرية التي يجسدها ماتيو، بطل الدروب، عصيًا على الفهم أكثر ومربكًا للروائي، هو أنه قَرَن هذه الحرية بفعل يجسدها. فقد انطلق سارتر من جهة من شخصية ماتيو التي تتجلى كامتداد لشخصية روكنتان في رواية الغثيان، تلك الشخصية الميتافيزيقية التي تمثل الحرية بمعناها الفلسفي البعيد عن الخيارات العادية للناس العاديين، كونها تبدو كمشكلة فلسفية أكثر منها كمشكلة إنسانية. ولنتذكر كذلك أن ماتيو لم يكن على مدى أجزاء الرواية شخصًا تقليديًا: وحيد، بلا سكن محدد ولا عائلة، غير منضم إلى أي حزب، ملتفت بشدة إلى ذاته، غير مرتبط بالدولة، غارق وسط حريته الفضفاضة القائمة على عدم فعل شيء.

وأراد سارتر في نفس الوقت أن يُلزم هذا البطل بقضية عصره ويدخله ضمن الحدث التاريخي الجاري دون أن يخل بشخصيته، البعيدة مبدئيًا عن كل نوع من أنواع الالتزام. في هذه النقطة والتي تبدأ من الجزء الثاني من الدروب (وقف التنفيذ) وجد سارتر نفسه أمام مأزق كبير: فالمشكلة تظهر بين التركيبة الأساسية للبطل والهدف الأساسي الذي رسمه الكاتب في إلزام البطل بفعل ما دون أن يلزمه به، ومن ناحية أخرى فإن أي سعي للبطل نحو فعل عظيم يلزمه دون أن يقيده لن يكون بالأمر السهل، وسيخاطر بإلزام حريته التي يريدها أن تظل بلا قيد أو شرط.. لكن ما عسى أن يكون هذا الفعل؟

في الجزء الأول من الثلاثية “سن الرشد” جسد سارتر هذه الحرية التي كانت على الغالب حرية في التخلي والرفض. فاستطاع ماتيو بدون الكثير من التعقيدات أن يحجم عن الزواج من مارسيل والتخلي عن طفله الذي تحمله في أحشائها، استطاع كذلك التغلب على فكرة مساندة قضية الجمهوريين في إسبانيا رغم تعاطفه معها، ورفض مقترحات صديقه برونيه للانضمام إلى الحزب الشيوعي. وهكذا نجح سارتر لحد بعيد في الحفاظ على الأفعال وردات الأفعال المتوقعة من شخصية مثل ماتيو. لكن الشرخ الكبير حصل حين قرر ماتيو الانضمام للقتال وتلبية نداء التعبئة في الجزء الثاني من الرواية، حيث عاش البطل تناقضات كبيرة بين أهمية ذهابه للقتال وعدم جدوى القتال في نفس الوقت.

كان الهدف والخيبة قائمان إذًا في الفعل الذي يتوجب على ماتيو القيام به. لكن سارتر، كما يقول فيليب لانسون، هو “الروائي الأفضل فقط عندما لا يحدث شي”. فالحدث يضعف عمله الروائي ويغير شخصياته ويربكها. ربما كان هذا الخطأ الوحيد الذي دفع سارتر ثمنه بأن تخلى على اثرها عن الرواية والتفت نحو المسرح.

في مشهد الذروة، في الجزء الثالث من الرواية “حزن عميق”، الذي يعتبر النقطة الحاسمة لتغير البطل بالنسبة له كشخصية روائية وبالنسبة للروائي وللقارئ، حقق ماتيو تلك القفزة غير القابلة للتصديق. كان انضمامه للقتال موقفًا مجازيًا بقدر ما هو امتزاجًا مع الفعل النضالي. في هذا الفعل لم يكن على ماتيو “أن يقتل أشياء كثيرة في داخله” فقط، بل كان عليه أن يقتل نفسه أو يقدمها رخيصة في سبيل عدة دقائق من حرية محتملة في مواجهة عدو منتصر سلفًا.

وجد ماتيو نفسه على غير هدى، مندفعًا في تلك المغامرة العبثية، والتي تتمثل بإطلاق النار على جنود العدو من خلال برج كنيسة، في القرية التي اجتمعوا فيها بعد خسارة بلادهم. كل التناقض الذي عاناه البطل بين قناعاته وبين ضرورات التزامه ظهرت جلية، حين اعتلى ماتيو البرج وبدأ باطلاق الرصاص. في هذا المشهد المكثف والعظيم قلب البطل كل الموازين وانتقم دفعة واحدة من كل أنواع الرفض أو الإحجامات التي ارتكبها في حياته. كأن طلقاته التي أطلقها لم تكن تصب في مكان ملموس أمام ناظريه بل تنطلق من فوهة بندقيته لتعود إليه، إلى ماضيه الأجوف، إلى كل ما كان يعيق فهمه أو تقدمه نحو حريته: “وكان ذلك ثأرًا هائلًا. كانت كل طلقة تثأر له من وسواس قديم، طلقة على لولا التي لم أجرؤ على سرقتها، وطلقة على مارسيل التي كان علي أن أهجرها، وطلقة على اوديت التي لم أرد أن أضاجعها. وهذه للكتب التي لم أجرؤ على كتابتها، وتلك للرحلات التي امتنعت عن القيام بها، وهذه الأخرى على جميع الاشخاص، جملة، الذين كنت راغبًا في احتقارهم والذين حاولت أن أفهمهم، كان يطلق، وكانت القوانين تتطاير في الهواء، … كان يطلق على الإنسان، على الفضيلة، على العالم: الحرية هي الإرهاب”.

بهذا الفعل كسب ماتيو رهانه مع نفسه، رصاصاته خلّصته من ثقل المعنى الفارغ لحريته ومن كل تلك التساؤلات حول خواءه وعبثية وجوده ليغدو على أثرها خفيفًا، متحررًا من أناه ومنخرطا بين الجموع. وتمامًا مثل اوريست (في مسرحية الذباب)، الذي مضى بلا مبالاة، تاركًا وراءه النصر الذي حققه لشعبه، كان عليه أيضًا أن يمضي في العتمة والغياب: ” وكان نقيًا، وكان قديرًا، وكان حرًا”.

أما بالنسبة للروائي، فقد تخلص من خلال هذا المشهد، الذي استغرق خمسة عشرة دقيقة من عمر نضال ماتيو، من ذلك التردد في أهمية الفعل (Action). والنار التي أطلقها ماتيو خدمت سارتر بأن قضت على الأسئلة العالقة بشأن مصير بطله وتوازنات شخصيته في مواجهة التاريخ. هذا الفعل أطلق كذلك الرصاصة الأخيرة على البطل الذي عرفناه على مدى جزئين ونصف الجزء من الرواية ليعود ماتيو بعدها إلى الحياة في الجزء الرابع ولكن بوجه جديد وشخصية جديدة.

بالنسبة لسارتر كانت المعادلة سهلة، فقد تعلم، بعد وقت طويل حسب قوله، أن الواقع أكثر حضورًا بتعاسته وحقيقيته وأن عليه ككاتب أن يتكلم عن واقعه ومشاكله وأن يبتعد، وهو يشهد الحرب العالمية الثانية ومن ثم تحرير بلاده، عن المساءل الميتافيزيقة البعيدة عن الواقع المتحرك: “فأمام طفل يموت جوعًا، لا أهمية للغثيان ولا وزن لها. هذه هي مشكلة الأديب.” وهذه هي كلمات سارتر.

مقالات متعلقة

فكر وأدب

المزيد من فكر وأدب